تعدد أطياف شخصية ماريو بارغاس يوسا واهتماماته (مرشح سابق لرئاسة البيرو)، لا تمنع حصر انشغالاته الإبداعية في منطقتين إشكاليتين هما: العسف السياسي، والعسف الجسدي، وكأنه في مناوشته ديكتاتورية السلطة، وديكتاتورية الجسد، يختزل آلام الكائن البشري وهواجسه في الانعتاق مما يكوي روحه ويؤجل حضوره الإنساني الخلاق. ولطالما اعتبر قراء أن رواية»حفلة التيس» هي روايتهم الشخصية، في كشفها المريع لفظاعة الطغيان وتجلياته العميقة، خلال فضح شخصية طاغية مثل «رافائيل لونيداس تروخيليو» الذي حكم جمهورية الدومنيكان ما بين1930و1960، فشخصيات الرواية وأحداثها تدخل القارئ عنوة إلى جحيمها ومصائبها ورعبها وذعرها، وروائح شوارعها في تضاريس قلقة، مثلما تقوده في اللاوعي إلى استحضار ديكتاتوريات محلية مشابهة، أصابت روحه بالعطب ذاتة.
الواقع والمتخيل
في هذه الرواية المذهلة التي تختزل المدوّنات السابقة كلها مثل «خريف البطريرك» لغابرييل غارسيا ماركيز، و(السيد الرئيس) لميغيل استورياس، يمزج صاحب «البيت الأخضر» مواصفات المأساة الإغريقية بروح الرواية البوليسية، من دون أن يهمل الجحيم الفولكنري (نسبة إلى فولكنر)، في تفكيك البنى الزمنية ومزجها بشراسة في وعاء جمالي واحد. ويؤكد يوسا أن الواقع يتجاوز في هوله المتخيل، على خلفية الفترة التي عاينها عن كثب، قرابة ثمانية شهور في الدومينيكان، وكانت حصيلتها شهادات مروّعة عن حياة «تروخيليو»، هذا الطاغية الاستعراضي الذي يخبئ عينيه الوحشيتين وراء نظارة سوداء على الدوام: «كان خلال جولاته في البلاد، يقدم له البسطاء بناتهم العذراوات كهدايا، كما لو انهم يقدمونها إلى إله وثني، لم يكتف بمراقبة سلوك الجميع، وإنما راقب ضمائرهم وأحلامهم كذلك». وهذا الإفراط في «مديح القمع» بلور نصاً أخاذاً في فضح احتقار الديموقراطية وحقوق الإنسان، ليس في أميركا اللاتينية وحسب، إنما في معظم أنحاء الكرة الأرضية. هكذا تبدو الحكايات الخيالية، أقل وطأة مما هو معاش حقاً، ففي «حفلة التيس» اعتاد سمك القرش أن يفترس الأشخاص، وكان يذهب لانتظار المعتقلين. «كان هناك ازدحام لسمك القرش، حتى انه عند اصطياده، وفتح بطنه، يتم العثور على أحذية، وأحزمة جلدية للضحايا». حكايات منتقاة من بين مئات الوثائق، على رغم أنها تشبه لعبة الشطرنج في مراوغتها وكثافة تركيزها، وهي تلهث كي تواكب ما حدث فعلاً من شناعات بشرية ونزوات.
في «امتداح الخالة»، و «دفاتر دون ريغوبيرتو»، يتوغل صاحب «جائزة نوبل و ثرفانتس» في المناطق المجهولة والمحرمة لاستجلاء أقصى هبات الحرية، واستعادة كيان الغريزة بصفتها جملة ثقافية معتبرة في تاريخ البشرية.
- منقول بتصرف-