ثلاث قصص قصار (4)
بقلم: عبد الغني عبده
***
"نظام"
حَصَّلَ مِنَ "العلم" ما طمأنه إلى ربوية التعاملات البنكية، فهجر وظيفته الحكومية؛ حتى لا يطاله "غبار الربا"... وتكسب عيشه من بيع:كتب؛ تم استيراد ورقها وأحبارها وماكينات طباعتها عبر اعتمادات مستندية وتحويلات مصرفية؛ ومسابح وسوك وردت من الصين بنفس الآلية.
كما تخلى عن اللباس الغربي واستبدله بجلباب قصير غُزِلَ ونُسِجَ وحِيكَ بماكينات هي الأخرى مستوردة، فضلاً عن أن خيوطه القطنية استخلصت من زراعات تم تسميدها ومكافحة آفاتها بمركبات كيماوية جاءت محملة على ظهور السفن بعد تحويل أثمانها عبر عمليات مصرفية....
سرعان ما شُغلت وظيفته السابقة بثلاثة من أقرباء ومعارف مسئولين نافذين؛ لا يفوتون صلاة الجماعة؛ في المسجد الذي اتخذ من رصيفه متجراً... وكانوا حريصين على الشراء من معروضاته؛ التي ضاق بها الرصيف؛ فتمكن من افتتاح مكتبة جُهِزَتْ بأدوات وامتلأت بمطبوعات كلها مستوردة... وكلما زادت أرباحه اتسعت تجارته... وتم افتتاح فرع آخر لأحد البنوك... أو التصريح بإنشاء بنك جديد... وتقاربت - بالتوازي – سفراته لأداء العمرة تلو الأخرى... كما لم يفوت موسماً للحج – طلباً للتطهر - ولو بالتحايل على قواعد السماح.
"أطلال نظام"
تعلم من شيخه أن الربا محرم في جميع الشرائع؛ فتجنب اللجوء لمرابي القرية... وتكسب عيشه من زراعات سريعة المردود؛ لا تضطره إلى انتظار الثمار طويلاً؛ ولكنها لم تكن كافية لمواجهة مصاريفه المتزايدة بعد أن تزوج وكَثُرَت الذرية...
"الأشجار المعمرة تنتج ثماراً تعود عليك بالمال الوفير"؛ نصحه أحدهم... فوقع في فخ المديونية وتعثر في السداد فحجز المرابي على الأرض واستولى على نصف مساحتها...
نفض عن ذهنه وسواس الشيطان بقتل المرابي؛ ولم ترد على مخيلته – أصلاً – فكرة اقتلاع الأشجار والعودة إلى المحاصيل الموسمية... وكيف ترد مثل هذه الفكرة وهو يرى الشجرة – كمعظم الفلاحين – صنو "الولد"؟! وضع بذرتها في الأرض وتعهدها لسنوات حتى تكبر وقد أخذت من عمره وماله وسعادته وشقاه وعرقه...
وجد في جمع كلمة أهل القرية؛ الذين تضرروا جميعاً من سطو المرابي على ممتلكاتهم؛ مخرجاً من دائرة الاستدانة...
تواكبت ثورتهم؛ على المرابي وطرده؛ مع إنشاء الحكومة المركزية لبنك القرية؛ ليكتشفوا بعد حين أنهم لم يسلموا معه من غبار بل ريح الربا الصرصر العاتية.
"نظام يوتوبيا"
حَصَّلَ مِنَ "العلم" ما طمأنه إلى ربوية التعاملات البنكية، فلم يهجر وظيفته الحكومية فحسب؛ حتى لا يطاله "غبار الربا"... بل هاجر لتكسب عيشه من العمل في دولة تعلن أنها تطبق الشريعة... لم يفاجأ فقط بأنها تستورد أغلب احتياجاتها من الخارج (الذي لا يطبق الشريعة بالطبع)؛ بل وجد المعاملات البنكية متطابقة مع ما هرب منها.
بعد أن اجتاحت الثورات كل النظم الظالمة في البلاد التي يتطلع أهلها للتحرر؛ ليس فقط من نير الاستبداد، وإنما أيضا من ربقة الإحساس بالذنب والمعصية من أن يكونوا آكلين للربا.... تفجرت ينابيع الإبداع وابْتُكِرَت طرائق جديدة للصناعة والزراعة، وتحولت المجتمعات المتحررة من الاستهلاك إلى الإنتاج ومن البطالة إلى التشغيل... ومن التواكل إلى التوكل ... ومن التطهر إلى التطهير... ومن الاستيراد إلى التصدير ومن الاكتناز إلى الاستثمار.... فتزايدت أهمية اقتصاداتهم حتى صاروا أكبر قوة منتجة على ظهر الأرض... واستطاعوا – بذلك - أن يضعوا؛ ليس فقط قواعد التجارة الدولية... بل طرقاً للتمويل والمعاملات المالية اتسقت مع معتقداتهم، وانتفت معها الفائدة المصرفية – التي مَجَّها أغلب الاقتصاديين؛ بما فيهم ماركس وكينز؛ وإن لم يستطيعوا أن يجدوا لها بديلاً رغم تمنيهم أن تزول – من كل دول العالم.
من يومها لم يؤرقه أكل العيش سواء بالعمل في الحكومة...... أو السفر للخارج.... أو افتراش الرصيف بقفف وبواقيط وغلقان ومشنات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القفة والباقوطي والغلق والمشنة مصنوعات يدوية مصرية من أجزاء نباتية.
(تمت)
الرياض في 25 أبريل 2011م