الذين تربوا على الذل وتقبيل الأيادى يحاولون بكل جهد أن يجعلوا كل مصائب مصر بسبب الثورة. فالثورة هى التى خربت الاقتصاد، وهى التى زادت البلطجة، وهى التى أفسدت الأخلاق وغير ذلك من البهتان الذى يحاول كثير من الناس ترديده، وكأننا كنا نعيش فى الجنة مع أبينا آدم عليه السلام وقد تم طرد الشعب المصرى منها لسوء أدبه عندما طلب إسقاط النظام. ولن أخوض فى الرد على ذلك البهتان إلا فى مجال تخصصى وهو الاقتصاد ولن أتطرق لقضية البلطجة أو الأمن وغيرهما إلا فيما يمس البعد الاقتصادى.
فقد لوحظ فى الأونه الأخيرة قيام بعض أجهزة الإعلام هذه الأيام بترديد مقولات مغلوطة أن الثورة ومليونياتها هى سبب الأزمة الاقتصادية التى يعيشها الاقتصاد المصرى حاليا. من هنا جاءت رغبتى فى تفصيل تلك الحجج وما أعتبره نوعا من البهتان الاقتصادى لا يؤسس على قواعد منطقية سليمة. وفى هذا السياق دعونى أذكر مجموعة من الحقائق التى تفند تلك الأطروحة المغلوطة. الحقيقة الأولى وهى أن الأزمة الاقتصادية الحالية التى تمر بها مصر ليست أزمة حانقة أو قاتلة كما يزعم البعض إذا قورنت بأزمات ماضية وإن اختلف السياق واختلفت الظروف. ففى الثمانينيات وحتى بداية التسعينيات كانت الأزمة التى عانت منها مصر أشد وأقصى وامتدت سنوات ودخلت الدولة بسببها فى برنامج إصلاح اقتصادى مع المؤسسات الدولية تخلت فيه عن سيادتها لصالح تلك المؤسسات وما تبعها من نهب منظم من خلال مجموعة من رجال الأعمال وأصحاب النفوذ.
كما شهدت الفترة منذ 1991 وحتى تنحى الرئيس المخلوع العديد من الأزمات الاقتصادية خسر فيها الاقتصاد المصرى الكثير بأكثر مما خلفته الشهور السابقة من ثورة يناير. ودعونى أذكر فقط أن مصر مرت بأزمة اقتصادية شديدة خلال الفترة 2000ــ2004 عرفت وقتها بأزمة السيولة وفيها خسر الجنيه المصرى أكثر من 80% من قيمته أمام الدولار إذ انخفض من 3.33 إلى نحو 6 جنيهات، وبلغ فيها الدين العام 120% من الناتج المحلى الإجمالى وبلغ عجز الموازنة أكثر من 10% وتقلصت احتياطيات مصر من الدولار بنحو 50%. وإذا قورن ذلك الوضع بما هو بالوضع الحالى فحالنا أفضل نسبيا فى الأجل القصير، فالعجز المتوقع بالموازنة لهذا العام المالى من المتوقع الا يتجاوز 8.6% والدين العام فى حدود 82%ــ84%. ولدينا احتياطى بالدولار بلغ حاليا 24 مليار دولار فى شهر سبتمبر يغطى على الأقل 4 أشهر واردات وإن كان انخفاضة من 26 مليار يعود أخيرا إلى مبيعات الأجانب للأصول.
والذى يستشهد بما يحدث فى البورصة المصرية حاليا نقول له إذا عدتم لتراجع مؤشرات البورصة خلال الفترة 2000ــ2003 أو 08/2009 فإنكم ستدركون مدى عدم صحة الاستشهاد بالبورصة. والدليل على ذلك أيضا أن الأسبوع الماضى شهد انهيارات فى البورصات العالمية بلغت فى المانيا خسارة بلغت 25% وهى دول ليست بها ثورة. كما أن البورصة هى مقياس للاستقرار وكلما زادت الضبابية حول المستقبل كلما تعرضت البورصة لانهيارات وليس أدل على ذلك من ارتفاع مؤشرات البورصة بعد تحويل مبارك للمحاكمة لأنها أعطت مؤشر أن إدارة الدولة تستجيب لمطالب الثوار وهناك نور فى نهاية النفق.
الحقيقة الثانية وهى أن إدارة البلاد الحالية هى التى زادت الوضع الاقتصادى الحالى سوءا وذلك لعدة أسباب منها: التأخر القاتل للمجلس العسكرى والحكومة فى تطهير المؤسسات الاقتصادية للدولة من عناصر الحزب الوطنى وأنصار النظام القديم حيث يقف هؤلاء حجر عثرة أمام أى توجه للإصلاح تقوم بها الحكومة بل يشجعون الناس على الإضراب. فلا يعقل أن يظل مساعدو وزراء المالية وهم أعضاء بأمانة السياسات وغيرهم بالوزارات الأخرى فى أماكنهم ولا يكشف عن مصدر ثرواتهم وهم سدنة النظام القديم بل منهم من هم على صلة بالوزاراء السابقين ومنهم بلغت بجاحته لأن يكون على اتصال بيوسف بطرس غالى لينقل له كل كبيرة وصغيرة تحدث فى الوزارة ومصر.
ولا يعقل أبدا أن يكون سفراء مصر فى الخارج معظمهم من تلامذة أبوالغيط وهم يحثون المستثمرين بعدم الذهاب إلى مصر فى الوقت الحالى كما حدث من سفير مصر فى قطر والذى حذر المستثمرين بعدم الذهاب إلى مصر حاليا. ولا يعقل أن يكون محافظ الجيزة الحالى فى منصبه هو من أمر بتحويلنا للتحقيق عندما استجبنا لإضراب 6 أبريل لأول مرة. تقاعس الجهاز الأمنى الذى يحصل على ميزانية من الموازنة العامة ــ بدون صناديقه الخاصة ــ أكثر من 22 مليار جنيه ــ أكبر أو يماثل ميزانية الصحة ــ فى القيام بوظيفته فى الوقت التى استجابت فيه الحكومة لمطالب الضباط والأمناء وغيرهم لمزيد من المزايا دون القيام بواجبهم، وهو أمر غير مقبول ويؤثر سلبا على الاقتصاد المصرى. فالأمن مسألة أساسية لنجاح المنظومة الاقتصادية، فلا سياحة بدون أمن ولا استثمار بدون أمن. بل المصيبة أن أفرادا من الأجهزة الأمنية يتعاون مع البلطجية وليس بعيدا ما حدث مع الزميل عمرو حمزاوى إذ تزعم التشكيل العصابى أمين شرطة.
عدم وضوح الرؤية للحكومة الحالية وعدم إدراكها أنها حكومه انتقالية مهامها الأساسى تحقيق الأمن والاحتياجات العاجلة للمواطن وكذا المساعدة على نقل السلطة إلى سلطة مدنية، بل راحت تتبنى حل مشكلات الفئات المختلفة وهى غير قادرة على ذلك وهو ما جعل الناس تطمع بمطالب فئوية وهو أمر مستحيل أن يجاب لها خلال سنة واحدة. بل قام وزير المالية السابق بإعطاء إيحاء للناس أن مشاكلها سوف تحل بين عشية وضحاها. بل المصيبة الكبرى أن الحكومة صارت تتحدث عن مشروعات قومية كبرى، ولا أدرى هل يعقل ان تتبنى حكومة انتقالية لمدة شهور مشروعات قومية عملاقة كأجندة أساسية لها؟ الحقيقة الثالثة وهى الضبابية التى يحكم بها المجلس العسكرى هى ما يزيد من حالة الشك فى المستقبل وعدم اليقين.
هذا الوضع من الشكوك حول المستقبل وعدم اليقين هو ما يدفع المستثمرين فى الداخل والخارج إلى تأجيل قراراتهم الاستثمارية وهو ما يقلل الاستثمار ويزيد من حدة البطالة ويؤثر سلبا على النمو الاقتصادى. بل أن الإجراءات الأخيرة الخاصة بالانتخابات وتمديد المدة التى ينتويها المجلس العسكرى هى من الخطورة على الاقتصاد أكبر من المليونيات التى تعقد يوم الجمعة للمطالبة بمطالب الثورة وبعدها ينفض الثوار ليراقبوا فعل الحكومة. وسوف أسرد فى مقال لاحق خطورة حالة عدم اليقين تلك على الوضع الاقتصادى.
هذه فقط ثلاث حقائق مختصرة ترد على من يدعى أن الثورة هى السبب، فالثورة أنقذت مصر من الخراب والفساد الممنهج والنهب المستمر ولكن من يتقاعس عن تطهير البلاد من الفساد والمفسدين والسماح لهم مرة أخرى للعودة للمجلس التشريعى هم من يخربون البلاد ويدمرون اقتصادهم ومن يود إطالة الفترة الانتقالية هم من يزيدون التكلفة الاقتصادية للانتقال السلمى للسلطة. وللحديث بقية، والله تعالى أعلى وأعلم.