عبدالعظيم الجزار عماري أصيل
عدد الرسائل : 503 العمر : 51 المكان : العمار الكبرى الحالة : بحب العمار وأهل العمار الهواية : القراءة تاريخ التسجيل : 05/03/2008 التـقــييــم : 0
| موضوع: أحلام الموتى- بقلم عبدالمعبود الجزار الثلاثاء 04 أغسطس 2009, 6:53 am | |
| أحلام الموتى
حافي القدمين، يمشي على أطماره ، لا يأبه لسعة برد في جو شتاء ، أو جمرة نار أسفلتية تلهب قدميه في قيظ الصيف، يطوي طرقات وحارات، يجوب قراها والميادين، ملاذ الفوضى والضوضاء والهذيان، الناس كثر ، فلا يلقي بالا . أمتعة تحمله ويحملها, مسبحة وعصا وكتاب يتدلى منتصفه، من كيس قماش ملتصق بإحدى كتفيه، هذيانه كلمات ثاقبة حارقة، تحوي عمق البحر, وقصف الريح، طلقات رصاص طائشة، مبعثرة. أحيانا كنت أتسمعه يقول: الغول, الغول سيأتي، ينهشنا .. يأكلنا، ناموا قبل أن يأتي، لقد نمنا فابتعد ياغول, ابتعد لقد ناموا. أتذكر ساعتها أمي، حينما كنت رضيعا، كنت أشكو والشكوى عند الأطفال بكاء وصياح، كانت تخيفني ترعبني بالغول والعفاريت والحيات، حتى أهرب في النوم، شببت كأكثر أبناء جلدتي، أخاف الغول فآثرت النوم، لكنه لن يتركني حتى في نومي، سيأتيني في أحلامي فأنتفض فزعا . ليتك يا أمي تركتيني أصرخ حتى أصعق هذا القهر، هذا الخوف ، الرعب الذي يملأني حتى الموت .. ليتك يا أمي. هذا المخبول المجنون مضى حياته، مرتعشا مرتجفا، من شبح الغول فتراه يمشي مسلوب العقل، بأثواب مهلهلة بالية رثة، ممزقة ومرقعة، بقصاصات قماش، من ألوان شتى. بقايا ثوب, تستر جسدا، هزيلا نحيلا، كرقائق عظم مكسوة جلدا . من بين خصلات لحيته الكثة، وحشائش شعر أشعث أجعد، ملتوي الأطراف, وبشرته السمراء, تبرق عينا لامعة براقة، يبدو على ملامحه ذهول واستهجان, وعلامات تعجب واستفهام .. لوحة سريالية, معقدة الخطوط, متداخلة الألوان. لا يشغل بالا بطعام وشراب, يجمع كسرات من خبز، يروي ظمأه كطائر وقت الهجير على حافة نهر, لا يقبل شيئا من أحد, لا يعرف معنى للمال . تحكى عنه حكايا كثيرة, يقول العامة والبسطاء .. رجل من أهل الخطوة، من البدلاء، ، والبعض يقول .. مأفون مجنون مسلوب العقل . وآخرون تناولوه ما بين تحليل وإفاضة .. هذا رجل قطع الخيط الرفيع ما بين عبقريته والجنون, يجمع ثقافات وعلوم شتى, لا .. بل مجنون, مجنون مجنون . سمعت أحدهم يقول .. أحيانا استجمع من بين حروفه كلمات، أحس بها لكني لا أفهم معناها. فيضحك آخر .. هذا رائع، ألا تفهم، فأنا حقا أعشق هذا اللون من الكلمات ، المحيرة المبهمة، ويشير بالسبابة لأصحابه ناصحا أمينا (اقرأ .. فكِّر .. تكلَّم .. واكتب .. اِفعل ما يحلو لك، واحذر أن يفهمك إلا أنت, ويهمس .. الناس جميعا تجار ضمير, أقوال مأثورة قد تعجب منها، أفعال ممقوتة قد تأنف منها, وعلى كل فأنا مبهور بهذا المجنون العبقري. فيختلف معه الآخرون، هذا وقت لا تصلح فيه رمزية الأشياء، فقدان الإحساس لدينا، يستدعي كلمة لاذعة ومباشرة، ويدب خلاف هادئ بين الإخوان، يشتد ويمتد إلى أن يصبح شتما وسبابا ولعانا وتبادل اتهامات بالخيانة والعولمة والتخلف والجمود وهراء كلام .. لا لشيء إلا أنهم أدمنوا الخلاف والاختلاف . مشهد مرئي مسموع، في بعض مما قالوه عن صاحبنا وما يسمى بالمجنون. أما عن نفسي معذرة, أنا لا أعرف عنه, إلا وصف رؤاه ومشاهدته. وما شهادتي إلا بما سمعت من الأقوال, وتناقل عنه من الأخبار, وعلى كل هو في نظري, حالة خاصة, منفردة غير متكررة, أو قابلة للتكرار, ولتكن ما تكن تلك الحالة, سمها ما شئت. بعض نساء القرية يخافونه, وبعضهن لا . الأطفال تؤذيه, تشتمه تسبه, تقذفه بحجارة. زبون دائم عند الوراقين, وبائعي الصحف , مجاني لا يدفع, ولا يملك أن يدفع شيئا, وبأكثر من لغة يتصفح كل الأخبار, ويعرف كل الأحداث, ويطالع كتيبات وكتبا ومراجع, يشمها يشتهيها, ينهم منها نهما, فهي في فلسفته كالدم .. شريان حياة .. هكذا فهمت من لسان حاله. معروف لأكثر باعة الصحف, والوراقين والأدباء والكتاب والساسة, وأنصافهم، المتسلقين منهم يقتبسون بعضا من هذيانه, ويغزلون وينسجون قصصا وأقاصيص, ومقالات وحكاوى, لا توجد عنده حقوق للحفظ أو الطبع أو النشر. تراه قرفصاء, يلعب دور (الكومبارس) على حافة مجلس, ممن يدعون بفضلاء القوم والمتشدقين, يتفحص فيهم, وينقب في باطنهم ويقرأ ما بداخلهم, كصفحات مفتوحة, يسخر منهم, يتضاحك, يتباكى, يرحل عنهم, هم أيضا ساخرون مرددون, لا حول ولا قوة إلا بالله ، الملك للمالك ، مسكين. مجذوب مخبول مسلوب العقل. ها هو ذا, على أطراف المقهى, يتأبط عصا. تتقوس يمناه على يسراه, محتضنا كتابا, بين ثنايا الصدر, تتدلى مسبحته, وتدور ببطء, ما بين السبابة والإبهام. يتتبع نشرات الأخبار. من المذياع , وعلى شاشات التلفاز, يشاهد الأحداث والجنائز, ولاطمات ثكلى, وصراخ أطفال, وحرائق ,خراب ودمار, وعراق ينتهك. يزف نعوش الموتى صباح مساء, وصحافي يغتال, فتوأد كلمة صدق, ما زالت في المهد, بأسنان لبنية، والدود الصهيوني, ينخر أسفل منسأة الأقصى. والأقصى ملهوف يستصرخ، إلى أن جمدت الصرخة في حلقه، فبح الصوت. يعاين عبر القنوات الفقر والجهل والكذب والموت .. الموت يملأ الزمان والمكان, ترتعد أوصاله, تتساقط بغزارة, دموع ساخنة ,تروي لحيته الشعثاء, يصدر ضحكات هستيرية, متهكمة ساخرة, من تصريحات جوفاء, شجب واستنكار وإدانة, وميادين مكتظة بغثاء السيل, وسط صياح الديكة, ومواء القطط , ونباح كلاب, وولولة وعويل وصراخ, وعالم ذي قطب منفرد أوحد , مارد جبار , يبطش ويسيطر .. يده على كل الأشياء, يدوس بقدميه قيما وتراثا ومبادئ, يغيب العقول، ويجرف التاريخ، والإنسان في يده, ألعوبة .. قطعة شطرنج , بل طحلب ينبت في جدران هويس, هكذا تقرأ وتشاهد, على وجه المجذوب المسلوب, تعبيرات مرتسمة, بكتاب مفتوح, تظهر حاله, وتنبئ عن مكنوناته, فعندما يختل ميزان العدل, يختل العقل, ويجن الإنسان, يصاب بلوثة. يصرخ صاحبنا, ما بين العقل والجنون، لا يوجد مستقبل, أن نحيا في غابة، لا يوجد مستقبل, إن لم تكن معي فأنت ضدي ، أن تكون صليبية، أن تنتهك الأوطان باسم الحرية, لا يوجد مستقبل, أن تترمل زوجة وييتم طفل, أن تغتصب امرأة, أن تغتال الحرية باسم الحرية, لا يوجد مستقبل، أن تزدرى الأديان, أن تأكل لحم أخيك وتتجشأ. أن تتبذأ تتسفه, باسم الحرية, لا يوجد مستقبل, ويزداد صراخه, الناس مخمورون سكارى, يلهون .. يلعبون, يضحكون يتمايلون, ويشيرون إليه, مخبول مجنون مسلوب العقل. يبصق ويهرول، متلاحقة أنفاسه، يسبقه ظله، تتبعه الأطفال، يرددون مخبول مجنون مسلوب العقل. يتراشقونه بالحجارة, حتى يدمى جسده، يحتمي من سجيل حجارتهم، بوضع اكفه أعلى رأسه ، تتعثر قدماه ويسقط, يتابعونه .. يرشقونه, يحاول أن يستجمع ما تبقى منه, يسخر من عصا مهزومة, ليس لها مفعول .. جامدة .. باردة ، ومسبحة لا تدور. كساقية معطلة تتخبط, وكتاب على الأرفف مترب مغلق, ويفر هاربا بين الأشجار, على حافة نهر, يتفحص جسده النازف. ويبتسم وتتسع ابتسامته ,إلى أن تصبح ضحكات ساخرة, يعقبها أنين بكاء ونحيب, أتبعه ، أرقبه, وما زال بين العقل والجنون, راح يشخص مشهدا آخر, على مسرح فضاء مترامي الأطراف, فهو النص والمخرج والممثل والجمهور . لحظة صمت, وشعاع شمس صفراء معتلة. يتسلط على أوراق قديمة بالية متهالكة, يعلوها عنوان (الأطلس) أولى صفحاته خارطة جغرافية. على هامش هامشها, (وطني العربي) الصفحة المقابلة، صورة ضبابية, تبرز منها قبعات وحقائب سوداء, وأوراق سوداء, وأقلام سوداء, وخرائط بفواصل وحدود سوداء, تبرز أنياب مكشرة قاطعة, لشخوص أشباح, وكوابيس وشياطين ومردة, حيات وعقارب, وأزيز طائرات, ودوي قنابل, تسقط فتدمر صفحة مرآة النهر, وتعكر صفو الماء, تصنع دوائر دموية, يخرج منها غول عربيد مارد, غول أعرفه منذ نعومة أظفاري ولكني رأيته اليوم حقيقة، غول مخمور بكؤوس نبيذ من دم, يدعو كل أشباح وشياطين الأرض, لحفلة سكر. وهزيم الرعد, ويتسع النهر وتهيج الأمواج , الريح تصفر وتزمجر, يتعالى نعيب الغربان, ونعيق البوم, ونقيق ضفادع , ونباح كلاب, والخطر على المسرح الفضائي, اللامحدود المترامي, يحيط بخارطة وطني, ويكاد يدمر كل الأشياء، من بين حنايا وتعاريج ومدلولات الخارطة من بين اليابس والماء والأخضر والأزرق والأحمر, تخرج نساء مولولة متشحة بسواد، وصراخ أطفال, خائفة مذعورة , ورجال مهزومون مكسورون, تزف توابيت الموتى والشهداء. ويصيح عجوز من وسط المشهد , قدر ومكتوب ، والحمل ثقيل لكن شئنا أم أبينا لابد من حمله. فيصيح آخر .. ما في فائدة من النواح والبكا، يكفينا نوم , نحفر أرضنا يطلع زرعنا، (ومن أجل أن تكون كلمتك من رأسك .. لابد أن تأكل من ضربة فأسك). ويرد الثالث .. ما يحك جلدك غير ظفرك . ويمضي مشهد الموتى ، ما بين النكد والهم، وكلمة يأس تقتلنا, وكلمة تحيي الأمل بداخلنا. ويئن الناي وتنوح صبايا, مغطية وجوها كالبدر. بطين النهر, بضفائر شعر كالليل الحالك مفكوكة منتكسة ، والآهات، الآهات زفرات لهيب صاعد من الأحشاء ، وأكف ضارعة وعيون حمراء كما الجمر محفورة بالدم. استغاثة استنجاد , يا الله . يارب متى نصرك ؟. صدى هاتف يردد ويكرر (ألا إن نصر الله قريب) .. (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) ويعلو ويعلو الصوت ، وينتفض المسلوب, ويفيق مستمسكا متشبثا بكتابه, متشفعا برسوله, يملأ الإيمان قلبه, ويسري النور في دمه, يبسمل ويحوقل, والمسبحة تدور وتدور, تضيء ويزداد الضوء بريقا, والعصا على درب النور تهتدي. تهب منطلقة, يتبعها من خارطة وطني, جنود أسود , خيول وسيوف وقنابل, وبالا ودمارا, تحطم وتهشم, تهلك مردة وشياطين ومرتزقة, وتشق البحر, وتسابق الريح, وتنفذ من بين أقطار سماوات وأراضين, بسلطان الرب, الله الواحد, تلوح عصاي وترمي, والله الرامي, وتقهر والله القاهر، فيهلك الشر كل الشر, فتتضاءل الأشباح وتصغر, إلى أن تصبح محتقرة . وتكبر خارطة وطني, تتسع وتتسع, وتتلاشى الفواصل والحدود, لتصبح شيئا واحدا، كلمة واحدة, (وطني العربي الأكبر) وأنوار المسبحة متلألئة تدور حول الأسوار والقلاع والموانع الحصون, وتتناثر منها حبات مضيئة, على المساجد, فتعلو ويعلو النداء, مهللا ومكبرا, الله أكبر, الله أكبر. ويذهب ليل ويأتي نهار وشمس تشرق وتعلو فوق بساط أخضر تمتد وتسطع ونسمات عطرة تداعب أغصان الزيتون، فتتمايل نشوى، على تغاريد بلابل النصر، ورقصات النورس، وحمامات سلام ترفرف، يتناثر من بين جناحيها الحب، يتصافح وطني مع وطني .. كلمة واحدة .. راية واحدة .. إخوة أشقاء أحبة .. مواكب الفرح, وأكاليل زهور وورود, وزغاريد ومهرجانات النصر تملأ الأمكنة , ولأول مرة, نسمعها ونعنيها ونغنيها بصدق. وطني حبيبي، الوطن الأكبر يوم ورا يوم، أمجاده بتكبر .. وأمجاد يا عرب أمجاد .. أمجاد يا عرب أمجاد .. بلاد العرب أوطاني .. يغلق الستار, رويدا رويدا , مع صوت الغناء, يغلق جفن المسلوب المجذوب وتهدأ الأشياء وتسكن ويتمتم المخبول المجنون مسلوب العقل .. حلم هذا حلم من أحلام يقظتي، كغريق يأمل في طوق نجاة. لا .. ليس حلما .. أكيد الفجر يطلع والشمس تلحقه، كل الحكماء أكدوا الفجر وقالوا (الشمس حقيقة) ، ووصفوا لنا الصبر دواء، وشراب المر. وفي آخر المطاف قالوا .. للغائب حجته ، للغائب حجته. ملعون اليأس ونصبر لآخر المدى. ننتظر جيلا في يوم من الأيام يأتي، يأتي على يديه العجب العجاب ، إنها المعجزة، أن يكون الحلم حقيقة، ولكن متى؟ لا ندري! متهكما ساخرا, إلى أن يأتي, تعالوا نبكي أنفسنا, إن كانت الدمعة ما جفت، أو ننتظر فلعل المعجزة تعود ويأتينا الفاتح والناصر والكاشف وأحمس وصلاح الدين. ما زالت أصوات الأطفال متداخلة في رأسه كأزيز النحل، مخبول مجنون مسلوب العقل، مخبول مجنون مسلوب العقل. حالة من حالات اليأس وقد كور الليل النهار. وتلاشى قرص الشمس، وكفنها الظلام، وأصوات صفير الريح، وحفيف أوراق الأشجار، وتتابع أمواج النهر, هادئة رتيبة، تصنع موسيقى جنائزية، تحسس بين الأركان، مسبحته وعصاه وكتابه، وقد خارت قواه، وراح يبحث عن مكان يريح فيه عقله ويرتاح إليه جسده, وتسكن إليه روحه ونفسه, وبدت له أنوار القرية خافتة من بُعد, ونباح كلاب ضالة, وأناس في ليل شتاء قارص, منكمشون مرتجفون, مسلوبو إرادة, أحياء موتى، مخمورون سكارى, ميئوس منهم. راح ينتظر .. يتسمع عل بلالا يعتلي المئذنة صائحا, الصلاة خير من النوم , ولعل رجالا صدقوا في ليلة من ليالي القدر .. يشدو الخيط الأبيض ..خيط الفجر . بين طرقات مقابر القرية، راح يستنهض الموتى, الصلاة يا مؤمنين، حي على الفلاح , حي على الجهاد, سبات عميق, سكون رهيب, ولا مجيب, وبجوار قبر أمه، بركت ناقته، وذرفت عيناه، واستجمع حروفه، وتوسد كتابه، واحتضن عصاه، وتشابكت مسبحته, بأطراف أصابعه, وهمهم .. أحياء موتى .. أحياء موتى .. أحياء موتى وسكنه نوم عميق . عبد المعبود الجزار من أسرة تحرير (الوطن)
:55###&:
عدل سابقا من قبل الجزار73 في السبت 05 ديسمبر 2009, 5:53 am عدل 1 مرات | |
|