عبدالعظيم الجزار عماري أصيل
عدد الرسائل : 503 العمر : 51 المكان : العمار الكبرى الحالة : بحب العمار وأهل العمار الهواية : القراءة تاريخ التسجيل : 05/03/2008 التـقــييــم : 0
| موضوع: المشاركات السياسية المعاصرة في ضوء السياسة الشرعية السبت 16 أبريل 2011, 8:10 pm | |
| المشاركات السياسية المعاصرة في ضوء السياسة الشرعية
الفصل الأول: مقدمة في فقه السياسة الشرعية: ارتبطت كلمة «سياسة» في حس كثير من المثقفين والمتدينين بالنفاق والكذب، والانتهازية والاستغلال، والطغيان والاستبداد، حتى صار السياسي المحنك هو من يحسن التآمر على خصومه، وأحيانًا على أنصاره! ويمتلك القدرة على خداع الجماهير ودغدغة مشاعرهم ومداعبة خيالاتهم بالوعود المكذوبة سريعة الزوال. وعلى صعيد بعض المنتسبين للشرع المطهر غدا النفور من السياسة وأهلها دينًا وديدنًا، حتى تعوَّذ بعضهم من «ساس» و«يسوس»، وغدت عند طائفة رجسًا من عمل الشيطان لا يجوز الاقتراب منها( )، وعند طائفة أخرى هي بمثابة عورة لا يجوز مسها أو كشفها !!( ). ولا يمنع هذا من أن طائفة من العلماء والدعاة أعرضت عنها لأنها ليست أولويةً مقدَّمةً على قائمة الإصلاح بحسب السياق الزماني والمكاني الذي عايشوه( ) . يقول الشيخ محمد رشيد رضا: «لم أنشئ «المنار» لمقاومة سلطةٍ أو حكومةٍ، ولا لمدح سلطان أو أمير أو لذمِّهما، وإنما أُنشِئت لمساعدة العقلاء على السعي في تكوين الأمة من طريق التربية والتعليم»( ). ولكلٍّ وجهة هو موليها! ومن أهل العلم والدعوة من انطلى عليه زور بعض الساسة والعسكر فدعموهم وآزروهم فلما استتب له الأمر نكل بأنصاره! وما يزال التاريخ يذكر أن علماء مصر ركبوا يومًا إلى رجل من العسكر كان أميًّا وطالبوه - بعد انسحاب الحملة الفرنسية- أن يكون حاكم مصر قائلين: «أنت صرت حاكم البلدة والرعية»( ) . فكان كما قالوا، لكنه كان الطاغية الذي حدد إقامة الشيخ الشرقاوي شيخ الأزهر في منزله، ونفى الشيخ عمر مكرم نقيب الأشراف وقائد المشايخ والجماهير! هكذا فعل محمد علي باشا بأنصاره ومؤيديه! ولا يزال التاريخ يروي مجازر ومآسي عبد الناصر بمن أيّدوه ونصروه!! وبسبب ما سبق ذكره هرب كثير من الصالحين من هذا المعترك، وانحاشوا من هذا الدرك. والحق أن أعمال السلاطين المحرَّمة، وتصرفات الرؤساء الظالمة، وتصرفات الساسة الخارجة عن الشريعة ليست من السياسة الشرعية أو المشروعة في قليل أو كثير. يقول الإمام السخاوي: «ومن أعظم خطأ السلاطين والأمراء تسميةُ أفعالهم الخارجة عن الشرع سياسة؛ فإن الشرع هو السياسة، لا عمل السلطان بهواه ورأيه»( ). معنى السياسة لغة وشرعًا واصطلاحًا: السياسة لغةً: تدور السياسة في معناها اللغوي على تدبير الأمور وحسن رعايتها وإصلاحها. والسياسة: تدبير شئون الدولة، فالساسة هم قادة الأمم ومدبرو شئونها العامة( ). ومن أجمع معانيها اللغوية أنها: استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل( ). السياسة شرعًا: جاء في الحديث: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء»( ). ومعنى «تسوسهم»: تتولى أمورهم كما تفعل الأمراء بالرعية( ). السياسة اصطلاحًا: من أجمع المعاني الفقهية قول ابن عقيل الحنبلي فيما نقله ابن القيم عنه في كتابه «إعلام الموقعين»: «السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي»( ). فما كان عدلًا من السياسات فالشريعة تقرُّه، وما كان ظلمًا فالشريعة تمنعه، وليس من شرط ما يدخل في مفهوم السياسة أن يكون منصوصًا في كتاب أو سنة؛ فهي قانون موضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأموال( ). تعريف علم السياسة الشرعية: هو علم يُبحث فيه عن الأحكام والنظم التي تُدبَّر بها شئون الدولة الإسلامية، والتي لم يرد فيها نص، أو التي من شأنها التغيُّر والتبدُّل، بما يحقق مصلحة الأمة ويتفق مع أحكام الشريعة وأصولها العامة( ) . وعليه فإن كل حكم أو نظام يتعلق بشئون الدولة حقق المصلحة واتفق مع أحكام الشريعة وقواعدها الأصولية والمقاصدية -هو من السياسة الشرعية، وكل ما لم يحقق مصلحة أو خالف الشريعة فإنه لا يعد من السياسة الشرعية في شيء؛ بل وليس من الإسلام في قليل أو كثير؛ إذ هي قوانين وضعية لا ارتباط لها بالشريعة الإلهية. العلاقة بين علمي السياسة الشرعية والفقه: السياسة الشرعية كعلم هو جزء من علم الفقه؛ فهو أخص وعلم الفقه أعم؛ وذلك لأن الفقه قد ينقسم إلى عبادات، ومعاملات، وأحوال شخصية، وسياسة شرعية. فائدة علم السياسة الشرعية: إن علم السياسة الشرعية يبرهن على شمول هذه الشريعة لاحتياجات البشرية، ووفائها بمطالب الإنسانية، وما فيها من المرونة والسعة يحقق في الواقع صلاحيتها للتطبـيق في كل زمان ومكان. فهذا العلم يمد المجتمعات بما يواكب التطورات من أحكام شرعية، وإن لم تكن منصوصة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو يدل عليها إجماع، أو يكون لها نظير في القياس، وذلك بما يحقق مصالح الأمة، ويتفق وقواعد الشريعة، ويبرهن أن الإسلام دين ودولة. وما أحسن قول الماوردي: «ليس دين زال سلطانه إلا بُدِّلت أحكامه، وطُمست أعلامه، وكان لكل زعيم فيه بدعة، ولكل عصر في وَهْيِه أثر»( ) . فمع التزام المسلمين في الصدر الأول بالنظام السياسي الإسلامي كان الدين قويًّا وأحكامه محفوظة، وأعلامه عالية مرفوعة، وبالتخلي عن الدين وَهَى النظام السياسي وضعف، وافترق السلطان عن القرآن فتخلفت العزة وغاب التوفيق، وبدلًا من الحكم بالشرع المنزل انتقل الناس إلى الشرع المؤول، ثم كانت قاصمة الظهر بالتحول جهة الحكم بالشرع المبدَّل، فتبدل الناس بالوحي الهوى، وبالعصمة الضلال، وبالتوفيق الخذلان. أقسام علم السياسة الشرعية: يمكن تقسيم علم السياسة الشرعية إلى أقسام خمسة بيانها كالتالي: أولًا: السياسة الدستورية الشرعية: وهي التي تقابل القانون الدستوري في النظم الوضعية، وتتعلق ببيان علاقة الحاكم بالمحكومين، وبتحديد سلطة الحاكم وبيان حقوقه وواجباته، وكذا الأفراد والسلطات المختلفة في الدولة. ثانيًا: السياسة الدولية: وهي التي تقابل القانون الدولي العام في النظم الوضعية، وتتعلق بعلاقة الدولة الإسلامية بغيرها في حالتي السلم والحرب. ثالثًا: السياسة المالية: وهي التي تقابل القانون المالي في النظم الوضعية، وتتعلق بالضرائب، وجباية الأموال، وموارد الدولة ومصارفها، ونظام بيت المال. رابعًا: السياسة الاقتصادية: وهي التي تقابل علم الاقتصاد في النظم الوضعية، وتتعلق بتداول المال، واستثماره، والآراء والنظم الجديدة؛ كالاشتراكية والرأسمالية ونحوها. خامسًا: السياسة القضائية: وهي التي تبحث في الوقائع المتعلقة بالنظم القضائية وطرق القضاء والإثبات، ويقابلها هذه المباحث في النظم الوضعية قانون المرافعات، وقانون الإثبات، وبعض مباحث القانون الدستوري. من خصائص النظام السياسي الإسلامي: إن النظام السياسي الشرعي يتقيد بالشرع المنزل كتابًا وسنة، ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 36]، فالسيادة العليا في هذا النظام للشرع المطهر، فهو وحده الذي يملك تقرير الحق والإلزام به، وهو صاحب الكلمة العليا في أمر المجتمع والدولة، بحيث لا توجد سلطة أخرى تساوي سلطته أو تدانيها( ). وعليه فإن التشريع الإسلامي دائم لا يُعطل بحال، ولا يُعلَّق مطلقًا، ولا يُنقلب عليه، ولا تملك قوة من قوى المجتمع أن تتفلت من الأحكام الشرعية أو لا تتقيد بها. وهذا النظام غايته العليا صلاح الدنيا وعمارتها، وفلاح الآخرة وعمارتها. فالسياسة سياستان: سياسة الدين وسياسة الدنيا؛ فسياسة الدين ما أدى إلى قضاء الفرض، وسياسة الدنيا ما أدى إلى عمارة الأرض. وهذا النظام السياسي الإسلامي ليس مما يسمونه بالنظام الثيوقراطي في قليل أو كثير؛ لأن الثيوقراطية تقوم على دعامتين: الأولى: التفويض الإلهي للسلطة السياسية؛ بمعنى أن يكون الحاكم نائبًا عن الله لا عن الأمة. والأصل في النظام الإسلامي أن الحاكم بمثابة الأجير لدى الأمة في عقد الإمامة، ولا يتولى عليها إلا بإذنها واختيارها. الثانية: أن الحاكم في النظام الثيوقراطي يختص بحق التحليل والتحريم والتشريع، فكل ما يصدر عنه من أحكام واجب الاتباع، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه! وأما التشريع في النظام الإسلامي فهو حق الله الخالص لا ينازعه فيه منازع. وليس في النظام الإسلامي استبداد بأي شكل من الأشكال، وإن الذين مارسوا الاستبداد في التاريخ الإسلامي لم يكن النظر إليهم على أنهم يمثلون النموذج الإسلامي الرفيع الذي تقره الشريعة المطهرة. وليس في النظام الإسلامي ما يدل على عدم قبول التعددية الدينية؛ فالتسامح هو روح النظام الإسلامي في كل مجالات الحياة، وهو ما أثار إعجاب كل منصف. وكما أن السيادة للشرع المطهر في النظام السياسي الإسلامي فإن السلطان فيه للأمة، فهي صاحبة الحق في اختيار حاكمها، وهي التي تحاسبه وتراقبه وتحتسب عليه، وهي أيضًا التي تلي أمر عزله عند الاقتضاء ممثلة في أهل الحل والعقد منها، وفي الحديث: «لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون»( ) ، وفي الحديث الآخر: «ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر»( ) فالله تعالى يأبى قدرًا، والمؤمنون يمتنعون من ذلك فعلًا وعملًا. وفي الحديث الآخر: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه»( ). وهذا يدل على أنه يترتب على اختيار الأمة ما لا يترتب إذا لم تكن هي المختارة لإمامها. وقد خطب عمر الناس فقال ضمن خطبة طويلة «من بايع رجلًا عن غير مشورة من المسلمين، فلا يبايع هو: ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا»( ). ولا شك أن الأمة يوم كانت تأخذ بسلطانها، وتراقب حكامها، وتراجع ولاتها -سادت وقادت وأغلق باب الفتن، فلما فرطَّت في حقوقها غلب عليها المستبدُّون، وسامها سوء العذاب الظالمون! ومن خصائص هذا النظام الإسلامي في السياسة والحكم أنه نظام شوري، الشورى فيه واجبة لا نافلة، قال تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران : 159] وقال تعالى ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى : 38] وقال ^ لوزيريه: «لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما»( ). قال الحسن رحمه الله: «لو نزل بالحاكم الأمر يحتمل وجوهًا نحوها أو مشكل انبغى له أن يشاور .. يشاور من جمع العلم والأمانة»( ). وقال ابن خويز منداد: «واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها»( ). والسياسة الشرعية تقوم في نظامها على أداء الأمانة وإقامة العدل، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء : 58-59]. هاتان الآياتان جوهر كل سياسة شرعية، فالأُولى توضِّح للسلطات الإدارية التزامَيْها الأساسيين، والآية الثانية تخاطب كل فرد من أفراد الأمة لا الجيش فحسب( ). مشروعية العمل السياسي في الإسلام: الإسلام دينٌ ودولةٌ، فإذا أقيم الدين استقامت الدولة، وبإقامة الدين واستقامة الدولة تنطلق الأمة في مجالات رحبة؛ من الدعوة والتعليم والحسبة، وباختلال الدولة تختلّ واجباتٌ دينية جماعية؛ كالجهاد والقضاء بالعدل وجمع الزكاة... وغيرها. ولا شك أن الإمامة العظمى منصبٌ شرعيٌّ؛ فلا دولة بلا إمامة وسلطة تقوم بإدارة شئون الدولة. والإمامة موضوعةٌ لخلافة النبوة في حراسة الدين، وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجبٌ بالإجماع( )، وإذا كان عقدها واجبًا شرعيًّا، فهذا أعلى درجات المشروعية. وعليه فإن كلمة أهل العلم متفقة على أن: «ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها، فإنَّ بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس... لأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجب من الجهاد والعدل، وإقامة الحج والجُمَع والأعياد، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود، لا تتم إلا بالقوة والإمارة»( ). قال العز بن عبد السلام: «أجمع المسلمون على أن الولايات من أفضل الطاعات؛ فإن الولاة المقسطين أعظمُ أجرًا وأَجَلُّ قَدْرًا من غيرهم؛ لكثرة ما يجري على أيديهم من إقامة الحق، ودرء الباطل... وعلى الجملة فالعادل من الأئمة والولاة والحكام أعظم أجرًا من جميع الأنام بإجماع أهل الإسلام»( ). فإقامة الدين على وجهه تستند إلى إقامة الدولة ونصب الأئمة ولا بد. وقال ابن تيمية: «فالواجب اتخاذ الإمارة دينًا وقربة يُتقرب بها إلى الله تعالى؛ فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم من أفضل القُرُبَات»( ). ولأجل هذا طلبها غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم؛ وذلك لما فيها من الخير والإصلاح، وأما النهي عنها فيتنزَّل على من كان ضعيفًا أو غير متأهل لها. قال النووي في شرح حديث: «يا أبا ذر إنك ضعيف...»( ): «هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات لا سيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائفها، وأما الخزي والندامة فهو في حق من لم يكن أهلًا لها، أو كان أهلًا ولم يعدل فيها؛ فيخزيه الله تعالى يوم القيامة. وأما من كان أهلًا للولاية وعدل فيها فله فضل عظيم تظاهرت به الأحاديث الصحيحة؛ كحديث: «سبعة يظلهم الله في ظله...»( )، وإجماع المسلمين منعقد عليه»( ). وهذا بالجملة يدل على مشروعية العمل السياسي من حيث الأصل، إلا أن مفاسد كثيرة، ومشاكل عديدة تكتنف هذا العمل في واقع الناس اليوم؛ منها ما يتعلق بنُظُم الحكم والإدارة، ومنها ما يتعلق بواقع الدعوة والدعاة، وهو أمر يجعل العمل السياسي -من خلال الأحزاب السياسية المعاصرة، ومجالس التشريع والشورى المعهودة في بلاد المسلمين اليوم- دائرًا في فلك قضايا السياسة الشرعية القائمة على المقابلة بين المصالح والمفاسد، والتي قد تختلف فيها الفتيا باختلاف الزمان والمكان والأحوال.
أهداف العمل السياسي الإسلامي المعاصر وأغراضه: يمكن تلخيص تلك الأهداف والأغراض الأساسية للعمل السياسي المعاصر فيما يلي: 1- استئناف الحكم والتحاكم إلى الشريعة الإسلامية: إن تنحية الشر ع واستبداله مُنافٍ للإسلام؛ وذلك لأن الإسلام إنما هو استسلام لله وحده، واحتكام إليه وحده، ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِله﴾[الأنعام: 57]، ﴿فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء: 65]، فالكتاب والسنة هما مصدر التشريع في الإسلام، ومبدأ المشروعية إنما أُخذ عن الإسلام؛ فلا طاعة في معصية الله، «إنما الطاعة في المعروف»( )، و«لا طاعة لمخلوق في معصية الله»( ). وقد قال الصديق رضي الله عنه: «أطيعوني ما أطعتُ اللهَ ورسوله فإذا عصيتُ اللهَ ورسوله فلا طاعة لي عليكم»( ). وقد قَيدت السنة المطهرة السمع والطاعة بقيد تحكيم الشريعة؛ لحديث: «اسمعوا وأطيعوا وإن أُمِّرَ عليكم عبدٌ حبشي ما أقام فيكم كتابَ الله»( ). قال القاضي عياض: «أجمع العلماء على أنه لو طرأ عليه كفر أو تغيير للشرع أو بدعة -خرج عن حكم الولاية، وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه وخَلْعُهُ، ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك»( ). وقال ابن حزم: «الإمام واجبٌ طاعته ما قادنا بكتاب الله وسنة رسوله ^، فإن زاغ عن شيء منهما مُنع من ذلك، وأُقيم عليه الحد والحق، فإن لم يؤمن أذاه إلا بخلعه خُلع ووُلي غيره»( ). 2- حماية الحقوق والحريات الإنسانية الفردية والجماعية: فلا حق للسلطة في الدولة الإسلامية في استحلال قتلِ أو تعذيبِ أو اضطهادِ أحدٍ لمجرد معارضة أو لمطلق مخالفةٍ لنظامٍ أو حكم! قال ابن تيمية: «السلطان يؤاخذ على ما يفعله من العدوان ويفرط فيه من الحقوق مع التمكن»( ). وليس للسلطة أن تمنع الإنسان من فعل إلا إذا كان محظورًا أو مضرًّا بالمصلحة العامة أو بالغير. وليس للسلطة أن تمنع من انتماء إلى طوائف سياسية أو توجهات تطرح برامج إصلاحية، أو تيارات تسعى للوصول إلى السلطة بطريقة سلمية دون مصادمة لدين الأمة والدولة. وعلى الدولة والسلطة تحقيقُ مبادئ العدل والمساواة معًا؛ عدلًا في القضاء ومساواة في العطاء، وتأمينًا لحاجات كل إنسان يعيش في ظل هذه الدولة مسلمًا كان أو غير مسلم، وأن للأمة حقًّا في بيت المال، وأن الإمام وكيلٌ عنها في التصرف فيه بحسب مصالحها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ليس لولاة الأموال أن يقسموها بحسب أهوائهم كما يقسم المالك ملكه؛ فإنما هم أمناء ونواب ووكلاء، وليسوا ملاكًا»( ). 3- استفاضة الدعوة إلى الله وحمايتها: إن قضية الدعوة إلى الله تعالى وتحكيم الشرع المطهَّر تعتبر مطلبًا أساسيًّا من مطالب الدعوة إلى الله ومهماتها، ونَقْل الدعوة إلى ساحات جديدة؛ كالمنابر والمؤسسات السياسية وإسماع الكافة هذه الدعوة من خلال كل منبر متاح -لهو أمرٌ من الأهمية بمكان، قال تعالى ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران:104] وإن الاحتساب على المنكرات العامة -ولا سيما المنكرات السياسية- والمخالفات العامة، وكشف فساد المفسدين، وعبث العابثين بمقدرات الأمة ومصائرها –لمـما يرقِّي الأمة في مدارج القوة والعافية، ويسلمها إلى معارج القيادة والتمكين. كما أن البروز في الميدان السياسي يمهد للمطالبة بحرية أكبر للدعاة إلى الله، ويَعِدُ بأجواء أفضل لممارسة واجب البلاغ وإقامة الحجة، كما تجتمع مصالح أخرى كقطع الطريق على قالة السوء، ومروِّجةِ الافتراءات حول الدعوة والدعاة، وهذا من شأنه أن يَحُولَ دون الوقيعة بين الأمة ودعاتها المخلصين، وبكل حال فإن مواجهة العَلمانية ومزاحمتها سياسيًّا خير من إخلاء الساحة لها لتُفرض فرضًا ولتكون خيارًا وحيدًا للشعوب الإسلامية. الإصلاح السياسي المعاصر ومجالاته: أيًّا ما كان موقف أهل العلم والدين في بلادنا من السياسة والاشتغال بها، فإن الحد الأدنى من مطالب الجميع لا يخرج عما يلي: 1- تعديل الدستور؛ فهو الركيزة الأساسية في الدولة، ويمثل مرجعيتها، وعنه تنبثق القوانين واللوائح، وما دام أنه صناعة بشرية فيتعين تعديله بما يوافق الشرع المطهر. 2- إلغاء العمل بقانون الطوارئ سيء السمعة والذي وضع البلاد على حافة الانهيار وعرَّضها للانفجار، وألقى بظلال سوداء على الحياة بأسرها. 3- إعادة تنظيم العملية الانتخابية باعتبارها المرآة التي تعكس صورة حقيقية للمجالس النيابية، وتفعيل الإشراف القضائي عليها. 4- إتاحة الفرصة لتطوير العمل الحزبي وتكوين الأحزاب السياسية؛ ليخرج الحزب من كونه منبرًا للرأي فقط إلى دور فاعل في المجتمع له آلياته واتصاله المباشر بالجماهير. 5- القبول بالتيار الإسلامي بكل طوائفه المنضوية تحت راية أهل السنة والجماعة كقوة فاعلة في المجتمع، وعدم اضطهاده، أو تجاهله، أو العمل على عدم استيعابه داخل إطار المشروعية. 6- تحريرُ الدعوة إلى الله على منهج أهل السنة والجماعة من قيود الممارسة، وتوسيع رقعة الحرية في التعبير عن الرأي. 7- إتاحة الفرصة والمجال لمراقبة السلطة التنفيذية ومحاسبتها سياسيًّا، وتأكيد استقلال القضاء والإفتاء والأزهر؛ بما يضمن عدم استغلال المناصب الشرعية لتحقيق مصالح شخصية أو فئوية.
عدل سابقا من قبل عبدالعظيم الجزار في السبت 16 أبريل 2011, 8:16 pm عدل 1 مرات | |
|
عبدالعظيم الجزار عماري أصيل
عدد الرسائل : 503 العمر : 51 المكان : العمار الكبرى الحالة : بحب العمار وأهل العمار الهواية : القراءة تاريخ التسجيل : 05/03/2008 التـقــييــم : 0
| موضوع: رد: المشاركات السياسية المعاصرة في ضوء السياسة الشرعية السبت 16 أبريل 2011, 8:13 pm | |
| الفصل الثاني: أصول وركائز فقه السياسة الشرعية إن فقه السياسة الشرعية يعتمد على جملة أصول مهمة وقواعد حاكمة وهي كثيرة ومتعددة، تهدف في جملتها إلى إقامة العدل الذي لا يتأتى على وجهه إلا بإقامة الشرع، وتحقيق المصلحة التي اعتبرها الشارع فلم يهدرها. وفيما يلي بعض الركائز المهمة التي يقوم عليها الفقه الاجتهادي في السياسة الشرعية: أولًا: فقه النصوص: الأدلة المنصوصة في الكتاب والسنة هي عمدة استدلال الفقيه والمفتي المجتهد، وهذا أمر كالمجمع عليه، وذلك بسبب ما للنصوص من خصائص ومميزات تبين السبب في التعويل عليها والصدور عنها، ومن تلك الخصائص: 1- النصوص وحي الله تعالى: سواء أكانت من القرآن الكريم أم السنة الصحيحة المطهرة، قال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3، 4]، وكلاهما بلغنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم، فالكتاب سُمع منه تبليغًا عن ربه تعالى، والسنة صدرت عنه تبيينًا( ). قال تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾ [الأنعام: 19]. 2- النصوص محفوظة بحفظ الله: كما قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، قال ابن القيم: «والله تعالى قد ضمن حفظ ما أوحاه إليه صلى الله عليه وسلم وأنـزل عليه، ليقيم به حجته على العباد إلى آخر الدهر»( ). 3- النصوص حجة الله على خلقه: قال ابن القيم: «إن الله سبحانه قد أقام الحجة على خلقه بكتابه ورسله، فقال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: 1]. وقال: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]، فكل من بلغه هذا القرآن فقد أنذر به وقامت عليه حجة الله به»( ). 4- النصوص طريق العلم ومعرفة الحكم: قال ابن عبد البر: «وأما أصول العلم فالكتاب والسنة، ويوضحه أن هذا الأصل هو طرق التحليل والتحريم ومعرفة أحكام الله وشرعه»( ). 5- النصوص واجبة الاتباع: وقال ابن تيمية: «... فلهذا كانت الحجة الواجبة الاتباع للكتاب والسنة والإجماع، فإن هذا حق لا باطل فيه، واجب الاتباع لا يجوز تركه بحال، عام الوجوب لا يجوز ترك شيء مما دلت عليه هذه الأصول، وليس لأحد الخروج عن شيء مما دلت عليه، وهي مبنية على أصلين: أحدهما: أن هذا جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، والثاني: أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وجب اتباعه، وهذه الثانية إيمانية، ضدها الكفر أو النفاق»( ). 6- النصوص واجبة التسليم: قال تعالى: ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾[آل عمران: 7]، وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾[الأحزاب: 36]، وفي الحديث: «إن القرآن لم ينـزل يكذب بعضه بعضًا، بل يصدق بعضه بعضًا؛ فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه»( ). 7- النصوص تقدم على الرأي وعلى كل فتيا مخالفة: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [الحجرات: 1]، وقال سبحانه: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾[القصص: 50]. قال الإمام مالك: «أوكلما جاء رجل أجدل من الآخر، رد ما أنـزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم»( )، وقال الشافعي: « يسقط كل شيء خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقوم معه رأي ولا قياس»( ). 8- النصوص وافية وشاملة لجميع الدين أصوله وفروعه: قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 89]، وقال تعالى: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [سبأ: 6]. قال الشافعي: «فليست تنـزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها»( ). 9- النصوص واضحة المعاني ظاهرة المراد: قال ابن القيم: «وكذلك عامة ألفاظ القرآن نعلم قطعًا مراد الله ورسوله منها، كما نعلم قطعًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغها عن الله تعالى، فغالب معاني القرآن معلوم أنها مراد الله، خبرًا كانت أو طلبًا، بل العلم بمراد الله من كلامه أوضح وأظهر من العلم بمراد كل متكلم من كلامه؛ لكمال علم المتكلم وكمال بيانه، وكمال هداه وإرشاده، وكمال تيسيره للقرآن، حفظًا وفهمًا، عملًا وتلاوة. فكما بلَّغ الرسول ألفاظ القرآن للأمة بلَّغهم معانيه، بل كانت عنايته بتبليغ معانيه أعظم من مجرد تبليغ ألفاظه»( ). 10- النصوص إذا وجدت سقط الاجتهاد: فلا يصار إلى الاجتهاد إلا إذا عدم النص؛ ذلك أن المصير إلى الاجتهاد إنما يكون عند وجود ضرورة ملجئة؛ فالنصوص هي المرجع الأول والحجة القاطعة، ولا ينعقد إجماع على خلافها أبدًا. قال ابن تيمية: «... وذلك أن الحق الذي لا باطل فيه هو ما جاءت به الرسل عن الله، وذلك في حقنا، ويعرف بالكتاب والسنة والإجماع»( ). فالاجتهاد السياسي إنما يكون في غير المنصوص عليه، أو فيما كانت دلالته ظنية نظرية لا قطعية. ثانيًا: فقه المقاصد: ذلك أن الشريعة المطهرة إنما وضعت لحفظ مقاصدها من الضروريات والحاجيات والتحسينيات، والتكاليف الشرعية، كما يقول العز بن عبد السلام، «الشريعة كلها راجعة إلى مصالح العباد في دنياهم وآخرتهم»( ). وشيخ الإسلام يقرر أن: «الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها»( )، فالشريعة «عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها»( ). وقد نقل الطوفي الإجماع على تعليل الأحكام بالمصالح ودرء المفاسد ( ). والله تعالى إنما أقام الشريعة على هذا المعنى؛ لأنه سبحانه يحب الصلاح والفلاح ولا يحب الفساد والبوار. وقد نصت الشريعة على حكم وعلل للأحكام، وبين النبي ^ ابتناء دينه على نفي الضرر والضرار، وقصده إلى السعة واليسر ونفي الحرج. ولا شك أن شواهد الأحكام تدل على هذا المعنى بالاستقراء، وهو ما يقيم برهان صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان وحال. وإن ما يمر ببلادنا من أحوال مستجدة سوف يفضي بأهل الشريعة وعلمائها إلى فتاوي تحقق المصالح وتنفي المفاسد، وتجمع بين النصوص والمقاصد، وتربط بين الجزئيات والكليات، وتجمع بين الأحكام، وعللها وحكمها. والمتصدرون لمثل هذه المسائل الشائكة حين يُعمِلون هذه القاعدة وغيرها قد يخرجون بأحكام أو بفتاوي قد تستنكر بادي الرأي، لكنها قد تثبت عند المناقشة والموازنة والترجيح، كما انتهى إليه نظر عمر رضي الله عنه في إيقاف سهم المؤلفة قلوبهم، وتعطيل قطع يد السارق في المجاعة، ومنع الزواج بالكتابية، والإلزام بالطلقات الثلاث، والزيادة في حد الشرب إلى ثمانين... وغير ذلك من التصرفات العمرية التي تعتبر اجتهادًا مقاصديًّا مع أنه رضي الله عنه هو الذي أعمل النص الجزئي عند تقبيل الحجر الأسود، والاضطباع، والرَّمَل... وغير ذلك. ومن قبل اجتهد مقاصديًّا بعض الصحابة فراعوا المقاصد فصلوا العصر في الطريق إلى بني قريظة، واجتهد غيرهم فلم يصلها إلا بعد العشاء في بني قريظة، فكان الأولون مع المقصد والمعنى، وكان الآخرون مع النص والمبنى، ولم يكن أحد الفريقين ينقصه الهدى أو التقى، ولكنه الاجتهاد البشري الذي قد يراعي جانبًا أكثر من جانب، والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خطَّأ أحد الفريقين، ولا ثرَّب على أحد من المجتهدين. وإعمال تلك القواعد والأصول الحاكمة يكون باعتمادها إطارًا لمعالجة الوقائع والنوازل التي يحتاج في معالجتها إلى ورع دقيق، وفقه عميق، وفطنة وملكة صحيحة. والنوازل السياسية وما تواجه به من تأصيل لأحكامها وتقعيد لمسائلها ينبغي أن يراعى فيه الفروق بين الضرورة الفردية، والضرورة الجماعية العامة، فالأولى مؤقتة، والثانية دائمة. والأولى قد تتحقق بسهولة، ويتعرف على وجودها بيسر، والثانية لا تتحقق إلا بعد طول نظر، وفحص وبحث. وفي جميع ما سبق تقصد الشريعة وأهلها إلى إخراج المكلف من داعية هواه إلى طاعة ربه ومولاه، وتحقيق الامتثال لقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]. وكل من الفقيه المفتي، والسائل المستفتي عليه أن يحسن قصده، ويضبط قوله بضوابط الشرع المطهر. أما المفتي فيعلم أنه يمارس صفة مركبة تبدأ بالتشخيص والتكييف الفقهي للمسألة، وتمر بتلمس الدليل، وعلاقاته بالواقع، ومن ثم تصدر الفتيا، ولا يتم إلا بعلم وعمل ودربة وتجربة ومشورة. وليحذر المفتي والمستفتي من الوقوع تحت ضغط الواقع والمجتمع، أو التقديم بين يدي الله ورسوله بقول، أو رأي، وقد قال تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 119]. والأصل هو وجوب التحاكم إلى الشرع المطهر داخل ديار الإسلام وخارجها، فإن الأحكام الشرعية تخاطب المسلم حيثما كان، وتحكيم الشريعة عند القدرة على ذلك أحد معاقد التفرقة بين الإيمان والنفاق( ). وعليه، فلا يحل لمسلم أن يتحاكم إلى غير كتاب ربه، فإن فعل اختيارًا لم يكن من أهل الإسلام. قال ابن حزم: «لا خلاف بين اثنين من المسلمين أن من حكم بحكم الإنجيل مما لم يأت بالنص عليه وحي في شريعة الإسلام فإنه كافر مشرك خارج عن الإسلام» ( ). وقال ابن تيمية: «والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافرًا باتفاق الفقهاء» ( ). ويرخص في اللجوء إلى القضاء الوضعي عندما يتعين سبيلًا لاستخلاص حق أو دفع مظلمة في بلد لا تحكمه الشريعة؛ لانعدام البديل الشرعي القادر على ذلك، سواء أكان ذلك داخل بلاد الإسلام، أم كان خارجها، ويقيد ذلك بما يلي: - تعذر استخلاص الحقوق، أو دفع المظالم عن طريق القضاء، أو التحكيم الشرعي لغيابه، أو العجز عن تنفيذ أحكامه. - اللجوء إلى بعض حملة الشريعة لتحديد الحكم الشرعي الواجب التطبيق في موضوع النازلة، والاقتصار على المطالبة به، والسعي في تنفيذه؛ لأن ما زاد على ذلك ابتداءً أو انتهاءً خروجٌ على الحق، وحكمٌ بغير ما أنزل الله. - كراهية القلب للتحاكم إلى القضاء الوضعي، وبقاء هذا الترخص في دائرة الضرورة والاستثناء. دل على ذلك قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 173]، وقوله: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: 145]، وقوله: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: 115]، كما يستفاد ذلك من القاعدة الفقهية: «الضرورات تبيح المحظورات»، ودلائلها المعروفة في كتب القواعد الفقهية. كما يدل على ذلك أيضًا قصة لجوء الصحابة ش للمثول أمام الحاكم النجاشي الكافر-يومئذ- مرتين بسبب مطالبة كفار قريش بهم، وللذود عن حقهم في إبطال مزاعم قريش الباطلة فيهم. ثالثًا: فقه الترجيح عند التعارض: في حياة الناس اليوم تقابل وتعدد، وتشابك معقد بين المصالح والمفاسد والمنافع والمضار، حتى قلَّ أن تتمحض حسنة أو تصفو منفعة إلا ويشوبها ما يعكر عليها. وقد يكون التقابل بين المصالح فيقدم أولاها وأرجحها؛ فالضروري يقدم على غيره، والحاجي يقدم على التحسيني وما كان نفعه متعديًا يقدم على ما نفعه قاصر إذا كانا من رتبة واحدة. وما كان أخرويًّا قدم على ما كانت منفعته دنيوية محضة، وما كان من المصالح كليًّا مقطوعا به قدم على الجزئي المتوهم، والواجب يقدم على المندوب عند التعارض، والفرض أفضل من النفل ولا بد. والواجب المضيق يقدم على الموسع، وآكد الواجبين يقدم عند التعارض. وقد قال تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾[الزمر: 55]، ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾[الزمر: 18]. ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 271]. وقد علم النبي صلى الله عليه سلم معاذًا بأي شيء يبدأ أهل الكتاب وبما يثنِّي في دعوته، وقدم الفرائض في محبة الله على النوافل( ). وهكذا أيضًا عند تعارض المفاسد تدفع أعظمها فسادًا. فإذا «دار الأمر بين درء مفسدتين وكانت إحداهما أكثر فسادًا من الأخرى فدرء العليا منهما أولى من درء غيرها، وهذا موضع يقبله كل عاقل، واتفق عليه أولو العلم».( ) وكما أن القاعدة السابقة تنص على تقديم المصلحة الأرجح والأولى عند التعارض بين المصالح، فكذا عند تعارض المفاسد تدفع المفسدة الأكبر، ولا شك أن أعظم المكروهين أولاهما بالترك، فيرتكب أدنى المكروهين ضررًا ليتخلص به من أشدهما ضررًا( ). فمطلوب الشريعة ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعًا، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعًا. ( ) أدلة القاعدة: أولًا: القرآن الكريم: قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 217]. وجه الدلالة: قال ابن تيمية في معنى الآية: «يقول الله عز وجل: وإن كان قتل النفوس فيه شر، فالفتنة الحاصلة بالكفر وظهور أهله أعظم من ذلك، فيندفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما». ( ) ثانيًا: السنة المطهرة: 1- عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ستكون أثرة وأمور تنكرونها». قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: «تؤدون الحقَّ الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم»( ). 2- وعن أسيد بن حضير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض»( ). وجه الدلالة: الحديثان يوجهان إلى الصبر على مفسدة أمراء الجور، وترك قتالهم لما يترتب عليه من الفتنة الكبيرة والشر المستطير، قال ابن تيمية: «فأمر -مع ذكره لظلمهم- بالصبر وإعطاء حقوقهم وطلب المظلوم حقه من الله، ولم يأذن للمظلوم المبغي عليه بقتال الباغي في مثل هذه الصور؛ فإن فيه فتنة وشرًّا أعظم من ظلمهم، فالمشروع فيه الصبر». ( ) 3- وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمًا، فقلت: والله يا رسول الله لَغيرُ هؤلاء كان أحقَّ به منهم. قال: «إنهم خيروني أن يسألوني بالفُحش، أو يبخِّلوني، فلست بباخل»( ). وجه الدلالة: «الحديث فيه ارتكاب مفسدة لأجل أخرى؛ فإن القوم خيروه صلى الله عليه وسلم بين أمرين مكروهين لا يتركونه من أحدهما: المسألة الفاحشة، والتبخيل، والتبخيل أشدُّ، فدفع صلى الله عليه وسلم الأشدَّ بإعطائهم»( ). ومثل هذا تركه صلى الله عليه وسلم الصلاة على الغالِّ( ) والمدين( ) وتركه قتلَ المنافقين( )، وهذا يدل بجلاء على صحة هذه القاعدة، وكثرة تطبيقاتها. وفي تقريرها من جهة القواعد الأصولية والمقاصدية يقول العز بن عبد السلام: «وقد أمر الله بإقامة مصالح متجانسة، وأخرج بعضها عن الأمر إما لمشقة ملابستها، وإما لمفسدة تعارضها، وزجر عن مفاسد متماثلة، وأخرج بعضها عن الزجر، إما لمشقة اجتنابها، وإما لمصلحة تعارضها».( ) وفي مثل النوازل السياسية قد يقال إذا تعارض الواجب مع المحظور أيهما يقدم؟ والجواب: أن يقال إن التعارض المقدر إذا كان بشكل مطلق أو كلي أو أغلبي وكان في محلٍّ واحدٍ أو حالٍ واحدةٍ فيقدم الأمر على النهي، ويكون ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي. وأما ما يتعلق بالجزئيات من ذلك، كأن يتعارض فعل المأمور الجزئي مع ارتكاب المنهي الجزئي في محلٍّ واحد، فينبغي النظر في رتبة المأمور ورتبة المحظور، فإن كانت المفاسد المترتبة على فعل المحرم أعظمَ من مفاسد ترك الواجب احتُمِلت مفسدة ترك الواجب لدرء مفسدة فعل المحرم، وإن كانت مفسدة ترك الواجب أعظمَ ففعل المحرم أولى، وهذا له تعلق بالترجيح بين المصالح والمفاسد عند التعارض، وضوابط ذلك من الكلية والجزئية والتعدي والقصور. وعليه فلا بدَّ ولا غنى عن النظر في مراتب الأمر والنهي، والواجب والمحرم عند التعارض، فإذا تعارضت صغيرة مع واجب شرعي فليقدم الواجب -فضلًا عن ركن أو أصل من أصول الإيمان- وإذا تعارضت الكبيرة مع الواجب الذي هو من جنس الوسائل –مثلًا- فليقدم ترك مثله على ارتكاب مثلها. فإن استوت الرتبتان بين الواجب والمحظور، أو نقصت رتبة الواجب، أو حصل تردد أو اشتباه فليعمل عندئذ بمذهب عامة الأصوليين من تقديم درء المفسدة على جلب المصلحة، أو تقديم الامتناع عن ارتكاب المنهي عنه درءًا لمفسدته، ولو فَوَّتَ هذا تحصيلَ مصلحة الأمر. على أنه لا اختلاف على أن ترك الحرام أولى من فعل ما يستحب، فإذا كان الدنو والقرب من الإمام وإدراك الصف الأول يوم الجمعة وفي الجماعة مستحبًّا متأكدًا فإن تخطي الرقاب يوم الجمعة محرم، فينهى عن ذلك، ولو فَوَّتَ المصلحة المترتبة على فعل المستحب. ولأجل هذا قعّد الفقهاء: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وعند التعارض يقدم المانع على المقتضي، ودارت على هذا المعنى قواعد كثيرة منها: 1- الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف( ). 2- يختار أهون الشرين أو أخف الضررين( ). 3- يُتَحَمَّلُ الضرر الخاص لدفع الضرر العام ( ). 4- إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما( ). 5- إذا اجتمع ضرران أسقط الأصغر الأكبر( ). وهذه القواعد مختلفة مبنًى مقتربة معنًى في الجملة، وهي متعلقة بالقاعدة الفقهية السابقة: «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ومتفرعة عن القاعدة الكلية الكبرى: «لا ضرر ولا ضرار». وهي تدور حول المعنى الكلي العظيم والذي ابتنيت عليه الشريعة السمحة من تحصيل المصالح وتكميلها، ودفع المفاسد وتقليلها. وتعتبر قاعدة: «يتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام» مبنيةً على المقاصد الشرعية في مصالح العباد، استخرجها المجتهدون من الإجماع، ومعقول النصوص، وتعتبر قيدًا لقاعدة: «الضرر لا يزال بمثله»( ). فالشرع إنما جاء ليحفظ على الناس دينهم، وأنفسهم، وعقولهم، وأنسابهم، وأموالهم، فكل ما يؤدي إلى الإخلال بواحد منها فهو مضرة يجب إزالتها ما أمكن، وفي سبيل تأكيد مقاصد الشرع بدفع الضرر الأعم بارتكاب الضرر الأخص، ولهذه الحكمة شُرِعَ حدُّ القطع حمايةً للأموال، وحدُّ الزنا والقذف صيانةً للأعراض، وحدُّ الشرب حفظًا للعقول، والقصاصُ وقتلُ المرتد صيانةً للأنفس والأديان، ومن هذا القبيل شُرِعَ قتلُ الساحرِ المضرِ، والكافرِ المضلِّ؛ لأن أحدهم يفتن الناس، والآخر يدعوهم إلى الكفر، فيتحمل الضرر الأخص ويرتكب؛ لدفع الضرر الأعم( ). ولأجل هذا جوز الفقهاء الحجرَ على المفتي الماجن والطبيب الجاهل والمكاري المفلس( ). رابعًا: فقه الواقع: الشأن في كثير من قضايا السياسة الشرعية أن تتغير في واقعها وأن يتغير الحكم الشرعي الاجتهادي تبعًا لهذه التغيرات، ولذا فإن الأحكام الاجتهادية المبنية على أعراف معينة أو مصالح وعادات ما -لا ينكر تغيرها واختلاف الفتيا فيها باختلاف الأماكن والظروف والملابسات التي تكتنفها. والفتوى تتغير في الأمور الاجتهادية بحسب التغير الطارئ على أهل الزمان صلاحًا أو فسادًا. يقول عمر بن عبد العزيز: «تحدث للناس أقضية بحسب ما أحدثوا من الفجور»( )، ويقول العز بن عبد السلام: «يحدث للناس في كل زمان من الأحكام ما يناسبهم»( ). - وقد غلَّظ عمر الدية في أسنان الإبل بالجناية في الشهر الحرام، وطلب القاضي أبو يوسف تزكية الشهود لتغير أهل الزمان وضعف الديانة وتفشِّي الكذب( ). - وكان عمر بن عبد العزيز يقضي في المدينة بشاهد واحد ويمين، فلما صار إلى الشام لم يقبل إلا شاهدين لما رآه من تغيرٍ عما عرفه من أهل المدينة( ). - وأجاز بعض الفقهاء التسعيرَ للحاجة إليه بسبب فساد أهل الزمان( ). - وكان بعض الفقهاء لا يعتبرون ذوي الأرحام من الورثة، فكانت أموالهم تذهب إلى بيت المال، فلما رأوا فساد الزمان وجور السلطان وعدم انتظام بيت المال أخذوا بالرأي الآخر فورثوهم( ). - ولما تغير الحال منع بعض أهل العلم من خروج النساء إلى المساجد ليلًا؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح( ). - ولما تحاقر الناس عقوبة الخمر اجتمع الصحابة على أن يبلغوا بها أخفَّ الحدود ثمانين جلدة( ). - وكما غلَّظوا خفَّفوا مراعاةً لفساد أهل الزمان، فقد ترك عمر نفي الزاني لما التحق ربيعة بن أمية بهرقل بعد نفيه بسبب الخمر( ). - وفي عهد عثمان أمر بالتقاط ضوال الإبل وبيعها على خلاف ما كان معمولًا به، حتى إذا جاء صاحبها أعطي ثمنها، بسبب فساد الذمم ونقص الأمانة، وتحقيقًا لقصد الشارع ( ). - وانتقل الحنفية في اعتبار المنافع أموالًا إلى مذهب الشافعية والحنابلة لتجرؤ الناس على الغصب، فأفتوا بتضمين الغاصب أجرة المثل عن تلك المنافع المغصوبة( )، وذهب متأخروهم إلى جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن لاختلاف العصر والأوان( ). وربما اختلفت الفتيا باختلاف المكان: فالجناية في الحرم لا تكون كالجناية في غيره عند الشافعي وأحمد، ومال بعض المجتهدين إلى تغير الفتيا باختلاف الدار؛ فلا تقام الحدود عند الحنفية على من ارتكب موجبها في دار الحرب، لا في دار الحرب ولا دار الإسلام، وتقام عند غيرهم في دار الإسلام( ). كما تختلف الفتيا باختلاف أحوال المكلفين: فقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ في المباشرة والقبلة وهو صائم، ولم يرخص للشاب( )؛ لأن الأول يملك نفسه بخلاف الثاني، ومن سأل عن القتل قبل أن يقتل قالوا له لا توبة لك، فإن قتل قيل له تب إلى الله. وقد تتغير الفتيا باختلاف العلوم المعاصرة حتى أمكن تحديد ميراث الحمل وتقديره، واستفيد من العلوم الطبية الحديثة في حل إشكالات الخنثى وغيره. وأبيح القصاص في العظام حيث لا يخشى التلف أو السراية، وأفتى الحنفية وبعض الحنابلة بأن الاستحالة في الأعيان النجسة مطهِّرة( ). إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة الدالة على تغير الفتيا بتغير ما يحيط بها من ملابسات في الواقع. خامسًا: فقه التوقع: لئن كان فقه الواقع من أسس السياسة الشرعية، فإن فقه التوقع أيضًا من هذه الأسس التي عبر عنها فقهاؤنا تعبيرًا واضحًا في قواعد محكمة. ولذا عبر عنها الشاطبي بقوله: «النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا» ( ). فيشمل الفعل ما هو أعم من الاعتقاد والقول، كما يشمل الواقع والمتوقع؛ لأنهم عبروا بالتعلق عما من شأنه أن يتعلق وإن لم يقع بعد، تسميةً للشيء باسم ما يؤول إليه( ). وعليه فإن إهمال النظر إلى المآلات من حيث إفضاء الأفعال والتصرفات إلى نقيض المقصود الذي شُرِعَتْ له يُرتب أنواعًا من الخلل وبناءً على ذلك فإن المجتهد الناظر في هذه المسائل -لا سيما المستجدة والنازلة- عليه أن يراعي مآلات الأفعال، ونتائجها بما يتفق مع مقصد الشارع من تشريع تلك الأفعال والتصرفات، فإذا كان الفعل في مآله لا يتفق مع مقصد الشارع منعه المجتهد ابتداءً قبل وقوعه؛ لأن «الدفع أسهل من الرفع» ( ). وهذه القاعدة تتطلب من المجتهد أن يكون دقيقَ النظر عميقَ البحث، وقد علَّق الشاطبي على أهمية الدربة على هذا المعنى فقال: «وهو مجال للمجتهد صعبُ المورد، إلا أنه عذبُ المذاق، محمودُ الغِبِّ، جارٍ على مقاصد الشريعة»( ). أدلة القاعدة: أولًا: القرآن الكريم: 1- مجموعة الآيات المستدَلُّ بها على قواعد الترجيح بين المصالح والمفاسد، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108]. وقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: 110] ونحوها من الآيات، فهي تنهى عن أفعال معينة تؤول عاقبتها إلى عكس مقصودها من تعظيم الله تعالى. 2- مجموعة الآيات التي ترشد إلى اعتبار المآل بدليل ربط الشارع بين الأحكام ونتائجها العملية، نحو: قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 21]. وقوله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]. وقوله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 179] فهذه الآيات ترشد إلى اعتبار مآل هذه التصرفات والأفعال بشكل مباشر في تحصيل التقوى، وحصول أمن المجتمعات، وتحقق الحفاظ على حياة الناس. 3- مجموعة الآيات التي تبين اعتبار المآلات بشكل خاص، ومنها قوله تعالى: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ [الكهف: 79]. وجه الدلالة: لا شك أن إعطابَ السفينة أو إلحاقَ ضررٍ بها ينبغي منعه ودفعه؛ لكونه مضرَّةً ومفسدةً، لكن لما لُوحظ مآلُ هذا الفعلِ من نجاةِ السفينةِ من الملِكِ الظالم كان هذا الإضرارُ محمودًا من جهةِ مآله، ومشروعًا من جهة نتيجته. 4- قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور: 4]. وجه الدلالة: قد يجلد من رأى الزنا بعيني رأسه فشهد به من غير أن يأتي عليه بأربعة شهداء، وهذا في ذاته ضررٌ ومفسدةٌ إلَّا أنها لـمَّا حفظتِ الأعراضَ ومنعت من إشاعة الفاحشة أو تشويه الشرفاء، فقد جاء هذا الاحتياطُ في عدد الشهود، وإقامة حدِّ القذف على من قذف؛ للمآل المرجو من حفظ المجتمع المسلم أن تُستعلَنَ فيه الفاحشةُ، أو تُنتهكَ فيه أعراضُ المؤمنين بالبهتان. ثانيًا: السنة المطهرة: - الأحاديث المستدل بها على قواعد تعارض المصالح والمفاسد وتدافعها مثل: 1- حديث بول الأعرابي في المسجد، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن قطع بوله( )؛ لما يؤول من انتشار النجاسة وحصول النفرة. 2- وحديث امتناعه صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين؛ لئلا يتحدث الناسُ أن محمدًا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه!( )، ونحو ذلك. 3- وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «خيار أئمتكم الذين تُحبونهم ويُحبونكم، وتُصَلُّون عليهم ويُصَلُّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تُبغضونهم ويُبغضونكم، وتَلعنونهم ويَلعنونكم». قالوا: قلنا: يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: «لا ما أقاموا فيكمُ الصلاةَ، لا ما أقاموا فيكمُ الصلاةَ، ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئًا من معصية الله، فَلْيَكْرَهْ ما يأتي من معصية الله، ولا يَنْزِعَنْ يدًا من طاعة»( ). وجه الدلالة: في الخروج على الظالم مصلحةُ عزله وتوليةُ العدلِ، وإشاعةُ الصلاحِ، وإزالةُ الفسادِ، إلَّا أنه لما يؤول إليه ويفضي من استباحة دماء أهل الإسلام، وحصول الفتن في مجتمعات المسلمين، وغيرِ ذلك من أسبابٍ -أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة، وعدمِ منابذتِهم أو الخروجِ عليهم. ضوابط الاجتهاد بالنظر في المآلات: ومما ينبغي الالتفات إليه في هذه القاعدة: ضوابطُ الاجتهاد بالنظر في المآلات، ومن ذلك( ): 1- تَرَجُّحُ حصولِ المآل سواء أكان مصلحة أم مفسدة، وذلك بغلبة الظن على أقل تقدير. 2- أن يكون النظر على وفق مقاصد الشريعة. 3- أن يكون المآل المتوقع منضبطًا في علته وحكمه. ومن القواعد الفقهية التي ترتبط بهذا المبدأ: قاعدة «من استعجل شيئًا قبل أوانه عُوقب بحرمانه»( )، وقاعدة «ما قارب الشيءَ يُعطَى حُكْمَه»( ).
| |
|
عبدالعظيم الجزار عماري أصيل
عدد الرسائل : 503 العمر : 51 المكان : العمار الكبرى الحالة : بحب العمار وأهل العمار الهواية : القراءة تاريخ التسجيل : 05/03/2008 التـقــييــم : 0
| موضوع: رد: المشاركات السياسية المعاصرة في ضوء السياسة الشرعية السبت 16 أبريل 2011, 8:15 pm | |
| الفصل الثاث: حكم المشاركات السياسية المعاصرة تمهيد: إن العمل السياسي في صورته المعاصرة أعم من أن يكون: • تكوينًا لحزب سياسي أو مشاركة فيه. • أو مباشرة لعمل في مجلس تشريعي برلماني أو شوري. • أو إنشاء لمؤسسات سياسية علمية أو إعلامية. • أو مشاركة في مؤتمرات وفاعليات سياسية إقليمية أو دولية. • أو تكوينًا لجماعات ضغط سياسي. • أو حضورًا فاعلًا في نقابات مهنية أو اتحادات طلابية، أو بلديات أو محليات. • أو إيجادًا لتيارات شعبية أو إدارة لتحلفات وطنية. والمشاركة السياسية المعاصرة في بلادنا اليوم تكتنفها مصالح ومفاسد، والأصل أنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات، والإيجابيات بالسلبيات، ووقع اشتباه وتلازم بين المنافع والمضار، والمصالح والمفاسد -أن يطلب التأني والتريث، وإعادة البحث وأن يتسلح الباحث بالبصر النافذ عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند حلول الشهوات، على أن «المصالح المحضة قلية وكذلك المفاسد المحضة، والأكثر منها اشتمل على المصالح والمفاسد، ويدل عليه السلام «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات»( )»( ). وليعلم أن تحصيل الإجماع في هذه النازلة أمر لا يتأتى بحال؛ لارتباطها بمتغيرات كثيرة تجعل كفة المصالح والمفاسد متدافعة باستمرار، وعنها تختلف الأنظار، وتدق المآخذ باختلاف الأحوال والأمصار، فمن اختار أحد الترجيحين لم ينكر على من خالفه؛ إذا كان لكل قول دليل يُعتبر، وقد قال به من قال من أهل العلم والنظر، ولا مانع من المناصحة والمراجعة من غير تعد أو مخاشنة، والله المستعان وعليه التكلان. أمور يتعين استحضارها عند النظر في هذه النازلة ببلادنا لتأثيرها في الحكم الشرعي: أولًا: في الساحة الخارجية: 1- القلق الغربي بشأن الاتفاقيات السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والتراتيب الدولية السابقة على قيام الثورة. 2- الخوف على المصالح الغربية في البلاد العربية، وما سيطرأ من تغير في العلاقات الخارجية. 3- التوجس من النظام الآتي بعد الثورة وكيف سيكون توجهه. 4- الترقب للموقف الأيديولوجي الجديد، والمشهد السياسي المقبل. 5- الاحتشاد العسكري للتدخل السريع على الحدود برًّا وبحرًا. 6- الموقف من الأحداث الساخنة على أرض فلسطين، والموقف من «حماس» واليهود معًا. ثانيًا: في الساحة الداخلية: 1- ما يلاحظ من غلبة العاطفة والحماس عند الكثيرين مع الافتقار إلى الحكمة وبعد النظر. 2- ما قد يرد من استغلال الأحداث والمشاركات للترويج لمشروعات تغريبيَّة أو تخريبية. 3- ما هو معلوم من ضعف الوعي السياسي وافتقاد الخبرة والتجربة، بسبب سياسات المرحلة الماضية. 4- افتقاد الكثيرين إلى المشاريع السياسية الكبيرة والمتكاملة. 5- صعوبة وضع رؤية للمستقبل القريب أو البعيد في ظل تعقيدات وعقبات شديدة. 6- إمكانية تفجير الوضع الداخلي في أي لحظة، والدخول إلى سلسلة من الأعمال الفوضوية أو التخريبية. 7- أهمية وجود المنابر السياسية والاجتماعية وحرية الدعوة الإسلامية. حكم المشاركة النيابية في المجالس التشريعية والشورية: لقد اختلف العلماء والباحثون والدعاة والمفكرون المعاصرون في هذه المشاركات وعلى رأسها تكوين الأحزاب السياسية والاشتراك في البرلمانات والمجالس التشريعية، وتباينت أقوالهم ما بين قائل بأن الجواز هو الحكم الشرعي الصائب لهذه النازلة، وقائل بأنه لا حكم لهذه النازلة إلا المنع والحظر. وقبل معالجة هذا الأمر يحسن التأكيد على الآتي: 1- لا يختلف فقيهان قديمًا أو حديثًا على وجوب تحكيم شريعة الله، وأن هذا الخطاب عام موجه للشعوب والحكام على حدٍّ سواء، ومن لوازم هذا الاتفاق: وجوب اتباع حكم الله ورسوله إذا قضى الله ورسوله أمرًا، ولا خيرة لمؤمن في هذا أبدًا ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلهِ﴾[الأنعام: ٥٧ ]. 2- كما أنهم لا يختلفون في حرمة التحاكم إلى شريعةٍ غيرِ شريعةِ الله التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم ، وكلهم يقول بتأثيم من يفعل ذلك، أو تكفيره إن اعتقد عدم صلاحية هذه الشريعة، أو فضَّل غيرها عليها. 3- لا يختلف جميع الفقهاء سلفًا وخلفًا في أن موالاة الكفار والركون إلى الظالمين حرام. وقد قال اليوم بجواز تلك المشاركات عدد كبير من العلماء يصح أن يطلق عليهم وصف الجمهور في هذا الزمان، وهم ما بين قائل بالإباحة وقائل بالاستحباب أو الوجوب أو مطلوبية هذه المشاركة في الجملة. ومن هؤلاء: - فضيلة شيخ الأزهر الأسبق جاد الحق علي جاد الحق رحمه الله( ). - فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية رحمه الله( ). - فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله( ). - فضيلة مفتي الديار المصرية الأسبق الشيخ الدكتور نصر فريد واصل حفظه الله( ). - فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله( ). - فضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم زيدان حفظه الله( ). في جملة كبيرة من الفقهاء المعاصرين. واستدل القائلون بالجواز من القرآن الكريم والسنة النبوية، والقواعد الأصولية والفقهية والمعقول. أولًا: من القرآن الكريم: 1- قوله تعالى: ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 55-56]. وجه الدلالة: قال الألوسي: «فيها دليل على جواز طلب الولاية، إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل، وإجراء أحكام الشريعة، وإن كان من يد الكافر أو الجائر، وربما يجب عليه الطلب إذا توقفت على ولايته إقامةُ واجبٍ مثلًا، وكان متعيِّنًا لذلك»( ). وقد شارك يوسف عليه السلام -فعلًا- في الحكم في مجتمع مشرك، لا يقوم الحكم فيه على قواعد الإسلام، وإنه حين طلب هذه الولاية علل طلبه بأنه يتمتع بصفات تؤهله لتحمل المسئولية، فوصف نفسه بأنه: حفيظ عليم. ويقول الدكتور عمر الأشقر: «بناءً على ذلك كله، يظهر لنا جواز المشاركة في الحكم غير الإسلامي، من خلال عرض قصة يوسف عليه السلام، إذا كان يترتب على ذلك مصلحة كبرى، أو دفع شرٍّ مستطيرٍ، ولو لم يكن بإمكان المشارك أن يُغَيِّرَ في الأوضاع تغييرًا جِذريًّا»( ). 2- قال تعالى: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ [هود: 91]. وجه الدلالة: يقول الشيخ السعدي في الفوائد المتحصلة من تلك الآية: «ومنها: أن الله يدفــع عن المؤمنين بأسباب كثيرة وقد يعلمون بعضها وقد لا يعلمون شيئًا منها، وربما دفع عنهم بسبب قبيلتهم، وأهل وطنهم الكفار، كما دفع الله عن شعيب رجمَ قومه بسبب رهطه، وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين لا بأسَ بالسعي فيها، بل ربما تعين ذلك؛ لأنَّ الإصلاح مطلوب، حسب القدرة والإمكان. فعلى هذا، لو سعى المسلمون الذين تحت ولاية الكفار، وعملوا على جعل الولاية جمهورية، يتمكن فيها الأفراد والشعوب، من حقوقهم الدينية والدنيوية لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية، وتحرص على إبادتها، وجعلهم عَمَلَةً وخَدَمًا لهم. نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين، وهم الحكام، فهو المتعين، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة، فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدَّمة، والله أعلم»( ). ومن المعلوم أن المشاركة في تلك المجالس تحقق بعض المكاسب للدعوة، والتي منها بلا شك العمل على حماية الدعوة والدعاة من استبداد الحكومات واضطهادها للدعاة( )، لأن الدعاة إذا كان لهم بهذه المجالس رهط وعشيرة تدفع عنهم فإن ذلك يكون سببًا في تراجع الظلمة عن سحقهم والقضاء عليهم. ثانيًا: من السنة النبوية: 1- قول رسول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ»( )، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ»( ). وجه الدلالة: دل الحديثان على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحسبة السياسية، ويترتب على ذلك القول بمشروعية الدخول في المجالس النيابية حيث إنها الوسيلة الفعالة للأمر والنهي والإنكار في هذا الميدان( ). 2- قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مات اليوم رجل صالح فقوموا فصلُّوا على أخيكم أصحمةَ»( ). وجه الدلالة: أن النجاشي ظلَّ حاكمًا على نظام يحكم بغير شريعة الله بعد إسلامه، ومع ذلك اعتبره النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا صالحًا، وصلى عليه بعد موته، ولم يُـخَطِّئْهُ في فعله، ومما يشهد بإسلامه: هذا الحديث وجميع الروايات التي ذكرها البخاري حول موت النجاشي، ونعي النبي صلى الله عليه وسلم له، والصلاة عليه، ومنحه وصف الصلاح، تؤكد أنه كان مسلمًا، مع أنه كان ملكًا لأمة كافرة، يحكمها وفق ما اعتادته من نظام وأعراف، وقد وصفه ابن حجر بأنه «كان ردءًا للمسلمين نافعًا»( ). وقد ساق الدكتور عمر الأشقر مجموعة من الأدلة على أن النجاشي رضي الله عنه لم يحكم في قومه بشريعة الإسلام، منها: قوله في رسالته إلى النبي صلى الله عليه وسلم «فإني لا أملك إلا نفسي»، ومنها: أن قومه قد خرجوا عليه يريدون خلعه، فنصره الله على خصمه، وكان حجته على قومه أنه لم يُغَيِّرْ، ولم يُبَدِّلْ مما عرفوه عنه، مع أنه اعتقد بالإسلام باطنًا، وبعث يعلم رسول الله بمعتقده( ). قال ابن تيمية: «والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن، فإن قومه لا يقرونه على ذلك، وكثيرًا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيًا، بل وإمامًا، وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها، فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها... فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة، وإن كانوا لم يلتزموا بشرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها»( ). ثالثًا: القواعد الفقهية الحاكمة لأمر المشاركات السياسية المعاصرة: القاعدة الأولى: «لا سياسة إلا ما وافق الشرع»( ). الدليل والتعليل: - لأن السياسة هي كل فعل كان الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو نزل به الوحي، ومما يشهد لهذا: أعمال الصحابة، ومنها: أ- تحريق عثمان رضي الله عنه للمصاحف ب- تحريق علي رضي الله عنه للزنادقة. جـ- نفي عمر رضي الله عنه لنصر بن حجاج( ). وقد قال القرافي: «واعلم أن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية ليس مخالفًا للشرع، بل تشهد له القواعد الشرعية من وجوه..». وذكر منها: 1- كثرة الفساد وانتشاره مع نفي الضرر في الشريعة، ورفع الحرج، فتجوز الأحكام التي لم ينص عليها لتحصيل هذه المصلحة. 2- المصلحة المرسلة: وهي مالم يشهد له الشرع باعتبار ولا إلغاءـ وبها عمل الصحابة ومن بعدهم، ومن أمثلتها: أ- كتابة المصحف. ب- ولاية العهد لعمر. جـ- تدوين الدواوين. د- اتخاذ دار للسجن. هـ- عمل السكة. و- التأريخ بالهجرة. ز- تضمين الصناع، ونحو ذلك( ). وبناءً على ما سبق فإن رفع الظلم، وتحقيق العدل، والمطالبة بذلك، واستعمال كل ما يتذرع به لتحقيق هذه المطالب لا يشترط فيه النص عليه من الشارع أو وجود مثال سابق من فعل السلف، ومن ذلك هذه المشاركات السياسية والوسائل المعاصرة. والشرط: ألا تخرج هذه الوسائل والمحاولات عن قوانين الشريعة الكلية، وحدودها الضابطة، وألا تهدم الشريعةُ هذه الأمور بنص من نصوصها، فمتى ما حققت هذه الوسيلة المصلحة، ولم تصطدم بنص جزئي، ولم يعترضها أصل كلي، فلا وجه لمنعها من جهة الشرع. القاعدة الثانية: «تحصيل أعظم المصلحتين، ودرء أعظم المفسدتين عند التعارض». إذا كانت المصلحة لا تتم إلا بمفسدة، أو كانت لا تتحقق إلا بتحقق فوات لمصلحة أخرى، أو كانت المفسدة الأكبر لا تندفع إلا بمفسدة دونها تتحقق-فإن قاعدة الشريعة تحصيل الأكمل من المصالح عند التعارض، ودفع الأعظم من المفاسد عن التعارض أيضًا. الدليل والتعليل: استقراء الشريعة يدل على أنها مبنية على رعاية المصالح في العاجل والآجل؛ لأنها منزلة من الحكيم الخبير، والمصالح ترجع إلى العباد؛ لأنه تعالى الغني، لا تنفعه أعمال العباد الصالحة، ولا تضره أعمالهم الطالحة، فيبقى أنها للعباد ترجع عائدتها، وتعود فائدتها. - فتُقدَّم نفقة الأهل والوالدين على نفقة التطوع ولو كانت جهادًا لم يتعين. - ويقدم سفر المرأة للهجرة من دار الحرب بلا محرم على بقائها بدار الحرب. - ويصبر على أئمة الجور؛ لأن عصيانهم والخروج عليهم تزيد مفسدته على مصلحة الخروج مع ما فيه من سفك للدماء. - ويعان بعض الظلمة في الولاية، إذا تعيَّن هذا وسيلة لدفع من هو أشد ظلمًا وأكثر فسادًا في الأرض؛ دفعًا لما بين مفسدتي الفسوق من التفاوت. - وتقبل بعض الولايات التي تتضمن شيئًا من المخالفات كالظلم ونحوه تخفيفًا للظلم الأكبر، وتحصيلًا للعدل الأرجح، لما في تحقيق هذه المصالح من المنافع وإن شابها بعض المفاسد. وهذا ما يتضمن ترجيح المشاركة على ضدها مع بعض مفاسد مغمورة، وذلك لابتناء الشريعة على تحقيق خير الخيرين والمصلحتين، ودفع أعظم الشرين والمفسدتين. فالمشاركة المنضبطة بضوابط المشروعية مع توقي المحاذير والمفاسد ما أمكن أعظم خيرًا، وأبعد عن المفسدة المترتبة على انفراد العلمانيين واللادينيين بالحكم أو التشريع. وفيما يتعلق بهذه النازلة وخصوص هذه القاعدة يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق معلقًا على كلام العلامة السعدي السابق ذكره: «وأنت ترى هنا أن مدار هذه الفتوى، وهذا الاستنباط من الآية الكريمة على القاعدة الفقهية «ارتكاب أخف الضررين» فلأن يسعى المسلمون ليكون لهم شوكة في الحكم مع الكفار يصونون بذلك أعراضهم وأموالهم ويحمون دينهم، خيرًا ولا شك من أن يعيشوا تحت وطأة الكفار بلا حقوق تصون شيئًا من دينهم وأموالهم»( ). القاعدة الثالثة: اعتبار الذرائع فالطريق المفضية إلى الحلال حلال وبالعكس. فالمقاصد ما يشمل المصالح والمفاسد، والوسائل هي طرقها المفضية إليها، ووسائلها الموصلة إليها. وكما تسد ذرائع الحرام، تفتح ذرائع الحلال الموصلة إليه، فكيف إذا كان ذلك من الواجب الذي به إقامة الدين، وتحصيل مصالح المسلمين. والقاعدة أن «للوسائل أحكام المقاصد» و«ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب». وعليه فينبغي فتح هذه الذريعة لتحصيل أمر مطلوب شرعًا من التمكين للدعاة، وإبلاغ الحق في كل ميدان، وإقامة الحجة على كل أحد. القاعدة الرابعة: «اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات» يقول الشاطبي: «النظر في مآلات الأفعال معتبر ومقصود شرعًا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة»( ). ومن هنا ذهب أهل العلم إلى إقامة المصالح الشرعية وإن اعترض في طريقها بعض المناكر الجزئية، وعلى من انتصب لإقامتها أن يتقي الله في اجتناب هذه المناكر ما استطاع. ومن هنا أيضًا ذهب أهل العلم إلى إقامة الواجبات الدينية مع بعض المبتدعة أو الفسقة عند تعذر إقامتها على وجهها مع غيرهم؛ لأن إضاعة هذه الواجبات أعظم مفسدة مما تلبس به هؤلاء من البدع والمخالفات. قال ابن تيمية: «فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها أقل من مضرة ترك ذلك الواجب -كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرًا من العكس»( ). بل يجوز عقد هذه الولايات لهؤلاء ابتداءً إذا كانوا أقوم بها من غيرهم، بل والقتال معهم لإقامة ولايتهم على الرغم مما يتضمنه ذلك من الإعانة على المعصية؛ لأن المعصية ليست مقصودة لذاتها ولكن لكونها وسيلة لتحصيل المصلحة الراجحة، كما تبذل الأموال في فداء الأسرى المسلمين من أيدي الكفرة. قال العز بن عبد السلام في معرض كلامه على تقديم الأقل فسقًا في الولاية: «فإن قيل: أيجوز القتال مع أحدهما لإقامة ولايته وإدامة تصرفه مع إعانته على معصيتة؟ قلنا: نعم دفعًا لما بين مفسدتي الفسوقين من التفاوت، ودرءًا للأفسد فالأفسد، وفي هذا وقفة وإشكال من جهة أنا نعين الظالم على فساد الأموال دفعًا لمفسدة الأبضاع وهي معصية، وكذلك نعين الآخر على إفساد الأبضاع دفعًا لمفسدة الدماء وهي معصية، ولكن قد تجوز الإعانة على المعصية لا لكونها معصية، بل لكونها وسيلة لتحصيل المصلحة الراجحة، وكذلك إذا حصل بالإعانة مصلحة تربي على تفويت المفسدة، كما تبذل الأموال في فداء الأسرى الأحرار من المسلمين من أيدي الكفرة الفجرة»( ). ويقول في موضع آخر: «وقد تجوز المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان، لا من جهة كونه معصية، بل من جهة كونه وسيلة إلى مصلحة، وله أمثلة منها: 1- ما يبذل في افتكاك الأسارى فإنه حرام على آخذيه مباح لباذليه. 2- أن يريد الظالم قتل إنسان مصادرةً على ماله، فإنه يجب عليه بذل ماله. 3- أن يكره امرأة على الزنا ولا يتركها إلا افتداء بمالها أو بمال غيرها فيلزمها عند ذلك. وليس هذا على التحقيق معاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان، وإنما هو إعانة على درء المفاسد، فكانت المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان فيها تبعًا لا مقصودًا»( ). ويقول ابن تيمية: «فمن طلب منه ظالم قادر و ألزمه مالًا فتوسط رجل بينهما ليدفع عن المظلوم كثرة الظلم، وأخذ منه وأعطى للظالم، مع اختياره ألا يظلم ودفعه ذلك لو أمكن -كان محسنًا، ولو توسط إعانة للظالم كان مسيئًا»( ). وعليه فالأصل إقامة العدل وتحقيق الخير، وإقامة المصالح الشرعية، وإن قام في طريقها بعض المفاسد الجزئية، أو المناكر الخاصة، والقاعدة القرآنية تقول: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾[التغابن: 16]. القاعدة الخامسة: «الأمور بمقاصدها»( )، ودليلها «إنما الأعمال بالنيات»( ). - فلا يستوي عند الله تعالى من التقط لقطة ليعرِّفها، ومن أخذها ليتلفها، فالأول محسن والثاني ظالم. - ولا يستوي من يعين المظلوم في تخفيف الظلم، ومن يعين الظالم على ظلمه! - ولا يستوي من يطلب الولاية ليدفع بها ظلمًا وليحقق بها عدلًا، ومن يطلبها استطالة على الخلق وانتهابًا للأموال، واجتراء على الحرمات، واستعانة على الطغيان. - ولا يستوي من دفع ماله لكافر ليخذل عن المسلمين -كأن يفتدي أسراهم- ومن دفعه موالاة لهم من دون المؤمنين أو إعانة لهم على المسلمين. وقد همَّ صلى الله عليه وسلم بدفع ثلث ثمار المدينة لغطفان يوم الخندق( ) وهو وكيل عن المسلمين في صيانتهم والتخذيل عنهم. فالأمور بمقاصدها ولا شك. وقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله عن استخراج بطاقة الانتخاب بنية انتخاب الدعاة والإخوة المتدينين لدخول المجلس فأجاب: «إن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»، لذا فلا حرج في الالتحاق بمجلس الشعب إذا كان المقصود من ذلك تأييد الحق، وعدم الموافقة على الباطل، لما في ذلك من نصر الحق، والانضمام إلى الدعاة إلى الله، كما أنه لا حرج في استخراج البطاقة التي يستعان بها على انتخاب الدعاة الصالحين، وتأييد الحق وأهله والله الموفق»( ). يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق معلقًا: «وأنت ترى هنا أن سماحة الشيخ رحمه الله اعتمد في فتواه على أمور: أولًا: أن هذه نية صالحة في تأييد الحق وعدم الموافقة على الباطل. ثانيًا: أن في الدخول إلى مجلس الشعب نصرًا للحق وانضمامًا إلى الدعاة وتأييدًا لهم. فإذا أضفت هذا المعنى إلى ما سبق من قول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي اتضحت لك الصورة أكثر، وأن الدخول إلى هذه المجالس تقليل للشر، وتأييد للحق». ثم يتابع فيقول: «وبهذا أيضًا أفتى سماحة والدنا وشيخنا محمد صالح العثيمين شفاهًا لعدد كبير من الإخوة طلاب العلم الذين سألوه عن حكم الترشيح للمجالس النيابية، فأجابهم بجواز الدخول، وقد كرر عليه بعضهم السؤال مع شرح ملابسات الدخول إلى هذه المجالس، وحقيقة الدساتير التي تحكم، وكيفية اتخاذ القرار، فكان قوله حفظه الله في ذلك «ادخلوها، أتتركوها للعلمانيين والفسقة؟!» وهذه إشارة منه حفظه الله إلى أن المفسدة التي تتأتى بعدم الدخول أعظم كثيرًا من المفسدة التي تتأتى بالدخول إن وجدت»( ). وعليه فالمشارك في هذه الأعمال على وجه شرعي ليس ممن يريد علوًّا في الأرض ولا فسادًا. رابعًا: الأدلة من المعقول: 1- دخول البرلمان والمشاركة في الحياة النيابية سبيل من السبل التي يمكن من خلالها الوصول إلى تحكيم الشريعة وإقصاء القوانين الوضعية؛ لأن دعوة الأمة من خلال الدعاية الانتخابية إلى تطبيق الشريعة سيجعل الأمة تقف بجوار المرشحين الذين ضمَّنوا برامجهم تطبيق الشريعة الإسلامية، فإذا ما وصل هؤلاء المرشحون وصاروا نوابًا أمكن أن يطبقوا الشريعة بطريقة سلمية دستورية( ). فإذا لم يستطع هؤلاء النواب أن يطبقوا الشريعة فإنهم سيقدرون على تبني قضية الإسلام من خلال منبر البرلمان، وسيتمكنون من الدعوة إلى اللَّـه في هذا المكان المهم( )؛ وذلك عملاً بقول اللَّـه تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[النحل: 125]. 2- «أن الأمة مخاطبة في الشرع ومسئولة عن تنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية والحكم بمقتضاها وإدارة شئون البلاد والعباد بحسب ما جاء فيها، وبما أنه يتعذر على الأمة كلها القيام بذلك الواجب، فلا بد من أن ينوب عنها من يتولى امتثال ذلك الأمر وتنفيذ ما ألزمت به في الشرع، وإنما يتم اختيار هؤلاء النواب من خلال ممارسة الأمة حقها في انتخاب من يمثلها وينوب عنها لتأدية الحق الواجب عليها وصيانة حقوقها ومصالحها ودفع الشر عنها»( ). فعلى الأكفاء أن يعرضوا أنفسهم على الأمة لتنتخبهم وتختارهم للنيابة عنها في هذا الواجب، ويجب على الأمة أن تختار وتستنيب هؤلاء الأكفاء، وليس هناك طريق للأمة ولا للأكفاء منها إلا طريق الانتخابات البرلمانية، فعلينا أن نأخذ بالأسباب الميسرة؛ للقيام بالواجب الكبير، ولا يصح أن نترك ما تيسر لنا انتظارًا لما لم يتيسر؛ لأن الميسور لا يسقط بالمعسور. فتاوي العلماء: قد أفتى كثير من العلماء بجواز تلك المشاركات السياسية في دار الكفر، وعلى رأس هؤلاء فضيلة الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر السابق حيث سئل عن حكم الاشتراك في الأحزاب السياسية في دار الكفر، فأجاب قائلًا: «ما دام المسلم مقيمًا في غير دار الإسلام فالأجدر به والواجب عليه ألا يشترك أو ينضم إلى فرقة سياسية حيث لا يأمن على حرية تصرفاته، وقد تضطره السياسة الحزبية غير المسلمة إلى الالتزام بمبادئها، وحتمًا هي مبادئ تخالف الإسلام في الأغلب ويخشى منها عليه. أما إذا كان المسلم قوي الشخصية قوي الإيمان صاحب نفوذ ورأي، وكان في انضمامه إلى الفرقة السياسية نفع للأقلية المسلمة بالدفاع عنها وتوصيل النفع لها فلا مانع من الانضمام مع الحذر واليقظة»( ) وبذلك صدرت الفتاوي عن بعض المجامع الفقهية، ومنها: 1- فتوى مؤتمر علماء الشريعة في أمريكا الشمالية، نوفمبر 1999م، ديترويت، ميتشجان: حيث حضره أكثر من ستين عالمًا، وكان على رأسهم: فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، ومعه جمع من العلماء، منهم: د. جمال بدوي، ود. وهبة الزحيلي، ود. عبد الحكيم جاكسون، ود. عبد الستار أبو غدة، ود. عبد الله النجار، ود. مزمل الصديقي. وقد انتهى أصحاب الفضيلة العلماء إلى القرار التالي: «الأصل مشروعية المشاركة السياسية في جميع المجالات التي يتحقق بدخولها نفع عام للمواطنين والمقيمين بمن فيهم من المسلمين، مثل: الانتخاب، والترشيح للمجالس، والحكومات المحلية، وممثلي الشعب، والإدارات التنفيذية، والمؤسسات الإغاثية والدولية؛ لما في ذلك من حماية مصالح المسلمين في الداخل، وتوضيح صورة الإسلام الحضارية بطرق وممارسات عملية، ودعم القضايا الإسلامية والإنسانية العادلة»( ). 2- فتوى المجلس الأوروبي للإفتاء: حيث صدرت الفتوى من المجلس بضرورة مشاركة المسلمين في الغرب في الانتخابات؛ حرصًا على الدفاع عن حقوقهم، وتقديم مشروعهم الحضاري الإصلاحي إلى مجتمعهم الذي يعيشون فيه سواء في أوروبا أو أمريكا أو غيرها. وفيما يلي نص القرار: «قرار (5/16) المشاركة السياسية أحكامها وضوابطها: بعد تدارس البحوث المقدمة المتعلقة بهذا الموضوع، قرر المجلس ما يلي: أولًا: هدف المشاركة السياسية هو صيانة الحقوق والحريات والدفاع عن القيم الخلقية والروحية، وعن وجود المسلمين في ذلك البلد ومصالحهم المشروعة. ثانيًا: الأصل مشروعية المشاركة السياسية للمسلمين في أوروبا، وهي تتردد بين الإباحة والندب والوجوب، وهذا مما يدلُّ عليه قولُهُ تعالَى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]، كما أنه يعتبر من مقتضيات المواطنة. ثالثًا: المشاركة السياسية تشمل الانخراط في مؤسسات المجتمع المدني والالتحاق بالأحزاب، وتكوين التوجهات، والمشاركة في الانتخابات تصويتًا وترشيحًا..»( ) ثم أخذ المجلس يعدد ضوابط تلك المشاركات. ولئن أجاز هؤلاء العلماء تلك المشاركات السياسية في بلاد الكفر، فلأن يجيزوها في بلاد المسلمين التي تحكمها أنظمة غير إسلامية مشتملة على حق وباطل أولى، حيث المفاسد أقل، والمصالح أكثر وأكبر ولا بد. وبخصوص النازلة جاء في فتاوي اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء جوابا عن سؤال: هل يجوز التصويت في الانتخابات والترشيح لها، مع العلم أن بلادنا تحكم بغير ما أنزل الله؟- ما نصه: «لا يجوز للمسلم أن يرشح نفسه رجاء أن ينتظم في سلك حكومة تحكم بغير ما أنزل الله، وتعمل بغير شريعة الإسلام، فلا يجوز لمسلم أن ينتخبه أو غيره ممن يعملون في هذه الحكومة، إلا إذا كان من رشح نفسه من المسلمين ومن ينتخبون يرجون بالدخول في ذلك أن يصلوا بذلك إلى تحويل الحكم إلى العمل بشريعة الإسلام، واتخذوا ذلك وسيلة إلى التغلب على نظام الحكم، على ألا يعمل من رشح نفسه بعد تمام الدخول إلا في مناصب لا تتنافى مع الشريعة الإسلامية»( ). ضوابط المشاركات السياسية المعاصرة: أغلب القائلين بالجواز وضعوا لذلك ضوابط منها: 1- ألا يترتب على المشاركة إقرار للتقنين الباطل، وبيان أن حق التشريع مقصور على الوحي، ولا يجوز لأحد من البشر مزاحمة هذا الحق. 2- أن المشارك في هذه المجالس يجب أن يظهر للناس أن مشاركته لا تستلزم الرضا بواقع هذه القوانين المخالفة للشرع ومؤسساتها المنبثقة عنها. 3- أن تكون مصلحة المشاركة ظاهرة متحققة لا خفية أو موهومة أو لا اعتبار لها، وألا يترتب على تلك المشاركة مفسدة أعظم من المصالح المراد تحقيقها، أو المفاسد المراد درؤها ودفعها. 4- أن المشاركة في هذه المجالس لا تلغي مبدأ الولاء والبراء؛ بل يجب أن تكون هذه المجالس ميدانًا لبيان هذه القضية وتحقيقها والصدع بها حسب مقتضيات المصلحة الشرعية. 5- أن المشاركة في هذه المجالس ليست بديلاً عن المنهج النبوي في إقامة الإسلام وتغيير الواقع، وإنما هي من أجل تحقيق المصالح وتخفيف المفاسد. 6- ألا تفضي هذه المشاركات إلى تضخم العمل السياسي على حساب الجهد العلمي والدعوي، فيجب حساب الأولويات بدقة، وألا يحصر العمل الإسلامي في هذه الدائرة. 7- ألا يترتب على تلك المشاركات استدراج إلى تنازلات وترخصات لا تقابل بمصالح راجحة، فيفقد العمل مشروعيته، ويذهب جهد أهل الإسلام هباءً. 8- عند القسم على احترام الدساتير يقيد بنية الحالف فيما لا يخالف شرع الله تعالى، وإذا كان المستحلف ظالمًا فاليمين على نية الحالف، بخلاف ما إذا كان المستحلف مظلومًا. 9- إدراك أن هذه الأعمال مما يدخل في نطاق المسائل الاجتهادية التي لا يصلح فيها اتهام النيات، أو التعدي على المخالف فيها ونسبته إلى ما لا يحل من المنكرات، كما لا ينكر على من لم يشارك فيه. ¬¬¬¬¬الترجيح: بعد عرض تلك الأدلة، وبناءً على ما سبق تقريره من ابتناء حكم تلك المشاركات على ما يحقق المصالح ويكثرها، ويدفع المفاسد ويقللها، وبعد النظر في واقع بلادنا اليوم وما هي مقبلة عليه، يترجح أن تلك المشاركات مع مراعاة الضوابط السابق ذكرها -واجبة في الجملة، وعلى كل أحد بحسبه، كالدعوة إلى الله عز وجل الأصل في حكمها أنها فرض على الكفاية، فإذا لم تتحقق الكفاية ممن يقومون بهذه الأعمال والمشاركات، تعين على القادرين أن يبذلوا أنفسهم فيها نصرة للدين، وطلبًا لعز المسلمين، والله تعالى أعلى وأعلم. وإذا تحقق الوجوب الكفائي في هذه الممارسات والمشاركات السياسية في المجالس التشريعية والشورية فتحقيقه فيما دون ذلك من المشاركات آكد. ومما لا ينبغي أن يتطرق إليه خلاف في ظل الأوضاع الجارية والأحوال المعاصرة ترجيح أصلح المشاركين في تلك الانتخابات بالتصويت لصالحه، والتنسيق بين أهل الدعوة في هذا السبيل بما يكثر الخير ويدفع الشر، ويحقق خير الخيرين، ويدفع شر الشرَّين. وعلى أهل الدعوة إلى الله أن يطالبوا أولئك المرشحين بمطالب تحقق إعزاز الدين، ونصرة المستضعفين، وإقامة العدل والعدالة الاجتماعية، ورفع القيود على مناشط الدعاة إلى الخير. ولا يسوغ بحال أن تتخالف الاجتهادات في هذه المشاركات بما يوهن قوة المشاركين في هذه المجالات من الأحزاب الإسلامية، أو يمكِّن لغير الصالحين من أولئك المشاركين. فالواجب التجرد لله وتقديم المصالح الكلية للأمة على المصالح الحزبية، والله تعالى عند قلب كل امرئ ولسانه، والحمد لله رب العالمين.
تساؤلات وإجابات: س1- ماذا لو قيل إن الجدوى من هذه المشاركة ضعيفة، والمصلحة ظنية أو موهومة، وليست قطعية أو راجحة؟ الجواب: ما قاله العز بن عبد السلام: «الاعتماد في جلب معظم مصالح الدارين، ودرء مفاسدهما على ما يظهر في الظنون، وللدارين مصالح إذا فاتت فسد أمرهما، ومفاسد إذا تحققت هلك أهلهما، وتحصيل معظم هذه المصالح بتعاطي أسبابها مظنون غير مقطوع به..» ثم ذكر رحمه الله أصناف العمال للآخرة وفي الدنيا وأن أعمالهم بحسب ظنونهم ثم قال: «..وكذلك الناظرون في الأدلة والمجتهدون في تعرف الأحكام، يعتمدون في الأكثر على ظن أنهم يظفرون بما يطلبون، والمرضى يتداوون لعلهم يشفون ويبرءون، ومعظم هذه الظنون صادق موافق غير مخالف ولا كاذب، فلا يجوز تعطيل هذه المصالح الغالبة الوقوع خوفًا من ندور وكذب الظنون، ولا يفعل ذلك إلا الجاهلون»( ). وأما ضعف الجدوى فمرده إلى أهل العلم والخبرة بالواقع، وأهل الحل والعقد في الأمة ممن يقدرون على الموازنة بين المصالح وما يقابلها من مفاسد، والمنافع وما يكتنفها من مضار. وهذه الموازنة معترك فحول العلماء، وجهابذة الفقهاء والحكماء الخبراء. يقول ابن القيم: «وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرَّءوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها -مع علمهم وعلم غيرهم قطعًا أنها حق مطابق للواقع- ظنًّا منهم منافاتها لقواعد الشرع. ولعمر الله إنها لم تناف ما جاء به الرسول، وإن نافت ما فهموه من شريعته باجتهادهم، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر، فلما رأى ولاة الأمور ذلك، وأن الناس لا يستقيم لهم أمرهم إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة، أحدثوا من أوضاع سياساتهم شرًّا طويلًا وفسادًا عريضًا، فتفاقم الأمر وتعذر استدراكه، وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك، واستنقاذها من تلك المهالك، وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة فسوَّغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله. وكلتا الطائفتين أُتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه، فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه؛ ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين وليست مخالفة له. فلا يقال إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به بل هي جزء من أجزائه»( ). س2- ماذا لو قيل أليس في هذا المسلك ركون للظالمين، أو مناقضة لعقيدة البراء منهم، أو إخلال بالموالاة الواجبة، وذلك بترشيح بعض من لا ترضى سيرته أو يتهم في ديانته؟ الجواب: ما قاله العز بن عبد السلام: «وقد تجوز المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان، لا من جهة كونه معصية، بل من جهة كونه وسيلة إلى مصلحة»( ). وقال الرازي: «قال المحققون: الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة من الظلم، وتحسين تلك الطريقة وتزيينها عندهم وعند غيرهم، ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب، فأما مداخلتهم لدفع ضرر أو اجتلاب منفعة عاجلة فغير داخل في الركون»( ). وإذا دخل هذا الميدان الصالحون فموالاتهم واجبة وإعانتهم متعينة، وإعانة عدوهم موضع مخالفة، ومحالفة من سواهم محل مراجعة. على أنه لا تلازم حتمًا بين الاشتراك في هذه المجالات، وممالأة أهل الكفر والفساد؛ لأن الأمر لا يخلو من أهل خير وإيمان، وإن كان الخير نسبيًّا في الناس. وأخيرًا فإن الأمور بمقاصدها فليس من دخل لإعلاء كلمة الله، كمن دخل هذه المجالس علوًّا في الأرض أو طلبًا للمال أو الجاه، ولا يعدل عن نور فيه ظلمة إلى ظلمة لا نور فيها. س3- ماذا لو قيل إن الانخراط في أحزاب سياسية ينقض أو يقدح في أصل الإيمان لأنها أحزاب عقدية؟ الجواب: إن الأحزاب السياسية التي لم تتكون على أساس عقدي لا تحدد هوية أعضائها ولا ينقض الانتساب إليها أصل إيمانهم، بل يعامل كل فرد فيها بحسبه. غير أنها لا تكتسب صفة الإسلامية إلا إذا كان اجتماع أصحابها على الإسلام والدعوة إلى تحكيم شريعته. وما كان من أحزاب رفعت راية العلمانية، فينعكس ذلك على حكم الطائفة دون أفرادها على التعيين إلا بعد تحقق الشروط وانتفاء الموانع. والبرلمانيون القائمون بالدعوة إلى الشريعة والانحياز إليها -وإن تأولوا في وجودهم بين غيرهم- مأجورون، ومن انحاز إلى فسطاط العلمانية فآثمون مأزورون ويعامل كل بما يستحقه. س4- ماذا لو قيل هل يمكن أن نتنادى إلى حزب إسلامي؟ الجواب: هذا باعتبار السياقات الزمانية التي تكتنفنا ليس بمحظور، وهو يتوقف على التهيؤ له، وحسن الاستعداد، وما ينشده أهل الإصلاح لا يتيسر تحققه دفعة واحدة، فلا حرج إذن في التدرج الهادف، والبناء المتأني. ومن الأهمية بمكان أن يتداعى أهل الإسلام إلى الاجتماع فيما بينهم على كلمة سواء، وأن يلتقوا مع من عداهم على حلف سياسي، أسوة بحلف الفضول؛ ليتفقوا على نصرة المظلوم، وردع الظالم، وتحقيق الحرية للدعاة إلى الله، وتوسيع رقعة العمل بالإسلام في البلاد وبين العباد، والتعديلات الدستورية الجديدة تبشر بإذن الله بخير، يتبعه مثله إن شاء الله. ومن الخير لأبناء الدعوة الإسلامية اليوم أن يعلموا أن الواقع لم يتهيأ لاستقبال الدعاة في مواقع قيادية متقدمة كوزارةٍ فضلًا عن رئاسة، وأن المقصود الأعظم المناسب في هذه الآونة هو المشاركة النسبية داخل هذه المجالس النيابية والشورية، واستعادة منابر التوجيه، والتربية والتعليم والثقافة والدعوة، فهذا خير للناس وأنفع، وأبعد من إيجاد ذرائع التكالب على الأمة من كل جانب داخليٍّ وخارجيٍّ، والله المستعان. س5 ماذا عن القبول بالدولة المدنية والموقف منها؟ الجواب: الدولة المدنية يطلقها العلمانيون يريدون بها الدولة اللادينية. ويطلقها الليبراليون يريدون بها الدولة المنتخبة من الشعب وليس من الجيش. ويطلقها بعض الإسلاميين على ما يوافق الدولة الإسلامية وما يقابل الدولة الثيوقراطية التي تحكم بالحق الإلهي، والتي يعتبر الحاكم فيها نائبًا عن الإله لا عن الأمة، والتي يختص الحاكم فيها بحق التحليل والتحريم والتشريع!! وعليه ففي ظل فقه السياسة الشرعية لا مانع من التعامل مع أي من المفهومين الثاني أو الثالث لتوسيع رقعة الخير وتقليل رقعة الشر. وأما المعنى الأول فينافي العقد الاجتماعي لهذه البلاد من جهة، ومن ينادي به أقلية مغمورة لا وزن لها في المجتمع. والدخول إلى التوسع في كون ترك الحكم بغير ما أنزل الله كفرًا أكبر ووجوب تطبيق الشيعة فورًا دون قيد أو شرط لا يصلح في الحال الراهنة لأن يكون شعار المرحلة؛ حيث يوجد ذرائع التشنيع والصد عن سبيل الله، وتقوية العلمانيين، واستقوائهم باليهود والنصارى من الغربيين. وهذا ما ينبغي النظر إليه في ضوء السياسة الشرعية. ولا مانع من التعاون في هذا الأمر في ضوء هذا الفهم مع غير الإسلاميين وغير المسلمين، حتى لا يقع اختيار للدولة المدنية بالمفهوم العلماني المفرط في الغلو. والتعامل مع غير الإسلاميين وغير المسلمين ليس ممنوعًا ولا مرفوضًا في إحقاق حق أو تخفيف شر أو دفع ضرر. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13]، وقال تعالى ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة:2] س6 هل يعتبر ما يجري في بلادنا فتنة تُعتزل؟ الجواب: للفتنة معان منها: الابتلاء والاختبار؛ قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾. [العنكبوت: 2-3]. ومنها: ما يقع من الالتباس والاشتباه وما ينشأ عنه من افتراق واختلاف، سواء أكان معه قتال أم لم يكن قتال فهو فتنة؛ قال ابن تيمية رحمه الله: «والفتن التي يقع فيها التهاجر والتباغض والتطاعن والتلاعن ونحو ذلك هي فتن، وإن لم تبلغ السيف». ومن لم يتبين له الحق في حال الاقتتال فلا عليه أن يعتزل وأن يبتعد عما لا يقدر عليه. أما اعتبار ما يجري فتنة فلا يصح، وأما اعتبار أن الواجب حيالها -لو كانت فتنة- هو الاعتزال فخطأ أيضًا. بل في الفتن التي تضمنت قتالًا قاتل طائفة من الصحابة مع كلتا الطائفتين المتقاتلين، وطائفة اعتزلت. والجاري في بلادنا من النوع الأول لا الثاني؛ فيجب السعي على كل أحد لتحصيل الخير ودرء الشر، وتكثير المصالح وتقليل المضار. واعتزال أهل الإسلام للأمر يعني ضياعه بكل حال، وغلبة الأعداء على الإسلام، وتفويت الفرصة السانحة على أهل الخير والدعوة إلى الله. س7 ما الواجب إزاء ما يجري الآن من ممارسات مستفزة من قبل بعض النصارى واعتدائهم المتكرر على المسلمين؟ الجواب: على نصارى مصر أن يذكروا جوارهم الآمن في كنف أهل الإسلام لقرون متتابعة، وما عوملوا به من السماحة، وعلاقات المصاهرة والبر والإحسان، وعليهم ألا يستجيبوا لقلّة موتورة فيهم من أهل الداخل، أو من أقباط المهجر الذين يغررون بهم، ويضحُّون بأمنهم واستقرارهم. وعلى أهل الإسلام أن يفوِّتوا الفرصة على أهل الغرب بإيجاد ذرائع التدخل الأجنبي في مصر بزعم اضطهاد الأقلية النصرانية، أو رفع الظلم الواقع عليها. ولا شك أن إفساح المجال للأجهزة الرسمية للتعامل مع تلك المظاهرات التخريبية هو أنفع من التصدي الشعبي الذي قد يثير الفتن ويحرك المحن. وأما ما يتعلق بقضايا المسلمات المأسورات في كنائس مصر، فإن القضاء المصري سيقول فيها كلمته العادلة ولا بد، وستقوم الحجة الملزمة لفك أسرهن وعودتهن إلى حظيرة الإسلام وأهله، فعلى أهل الدعوة أن يربطوا على قلوب أهل الإسلام ويكفوا أيديهم حتى يتحقق العدل ويندحر الظلم. والحمد لله رب العالمين كتبه محمد يسري إبراهيم في 22/3/1432هـ الموافق 25/2/2011م
| |
|
muhamad yusif allam مشرف قسم كلام فى السياسه
عدد الرسائل : 1280 العمر : 34 المكان : العمار الحالة : عايش والحمد لله الهواية : Economics & Political science تاريخ التسجيل : 05/02/2008 التـقــييــم : 3
| موضوع: رد: المشاركات السياسية المعاصرة في ضوء السياسة الشرعية السبت 16 أبريل 2011, 8:25 pm | |
| جزاك الله كل خير وقد استفدت كثيرا بما قدمته ومجهود اكثر من رائع . | |
|