( الحلقة الثامنة )
كما قلت كان يطرق أبواباً جديدة , نذكر منها إشتراكه في فريق كرة القدم للكلية ,يحرس مرمى كلية الهندسة , لعامين أو يزيد , حتى راح ضحية دكتور المساحة , عندما سأله عن غيابه المتكرر عن المحاضرات , فما كان من صاحبي إلا أنه أعلن كونه مع الفريق يلوذ عن مرماه هجمات العدو , مدعماً موقفه بالعديد من المستندات التي أصطحبها معه من رعاية الشباب , غير أن دكتور المساحة , لم يرى سوى نظارة صديقي التي تبلغ عدستها بعض المليمترات ,وتسائل هل هذا الفتى يستطيع أن يحرس المرمى ؟! , حقاً الآن علمت لماذا نُهزم ....لم يكن هذا فحسب ما أذكره له في وقائعه مع دكتور مادة المساحة ,بل هناك ما كان له واقع مرير
ومضحك فى ذات الوقت ,كنا نجلس سوياً في إمتحان لهذة المادة القاسية , وتطايرت بعض الأوراق
أسفل مقعد صديقي فهم أن يلتقطها , فرآه دكتور المساحة ... وكان رجل غليظ لا يعلم من التسامح
الديني الذي تجسده لحيته العظيمة سوى التشدد , فهم به صراخاً , واتهمه بالغش . لا أعتقد أن
صديقي قد اهتم بالدفاع عن نفسه فى أي أمر من أمور الدنيا , كهذة المرة ,, ومازال الدكتور يشيح
بوجهه رفضاً وإعراضاً ,وفشلت كل محاولات الصديق في إثبات حقيقة الأمر بما لديه من أدلة مادية
او مقارنة الأوراق أو الإجابات وبعد عناء دام لساعات بمكتب دكتور المادة .أمسك الأخير بالحل
الذي رآه شافياً , فقد جلب مصحفاً شريفاً , وطلب من صديقي أن يُقسم على المصحف على أنه
برئ ... فعل صديقي ... وانطلق يردد ... ياراااجل قول كده من الصبح .... أهذا كل ما فى
الأمر ! لذا فقد آثرت ان أذكر ذلك الموقف بالتلميح شعراً بقول :
ولا دكتور المساحة &&& وانت تحلف ميت يمين ... ربما يتبادر للبعض كون صديقي يتعامل مع الأمور بتلك البساطة التي تشبه هذة الكلمات
...لاشك أن من يرسم هذة الصورة له , فإنه مخطأ لا محالة , ما تراه فى بساطة معاملته ما هو
إلا استراحة من عناء تفكير عميق يدور بداخله , أعتقد أنني إلى الآن أنهل منه كل يوم شيئاً فشئ ,
, ولا يتسع المقام أن اتطرق إليها محللاً أو مبيناً ولو قدراً يسير من جوانب تلك الشخصية التي
تحضرت في أصالة , وتعولمت في سلفية معتدلة , فكانت للوسطية المحمودة نموذجاً للإعتدال ..
,كانت أيام وليالي روض الفرج .. أحب إلينا من تلك التي قضيناها فى عامنا الأول فى الخلفاوي ,
كنا نسبح فى ليلها الجميل معانقين للحياة , تُغرينا مقاهيها المنتشرة على طول شارعها الكبير بأبطال
روايات نجيب محفوظ , حتى أننا كنا نمكث لوقت ليس بالقليل صامتين على التحدث إلا من مراقبة
وتتبع للضوضاء الصاخبة من كل مكان أتيه , وعبث الحياة بمن فيها ,نفتح أوراقنا فلا نُسجل
معادلات رياضية أو مساقط هندسية , كنا نرسم طريقاً أدبياً نعلم أنه آت لامحاله , لا نُداوم على
الحضور فى مدرجات الجامعة كما كنا نفعل مع بائع الجرائد والكتب, الكائن فى دوران شبرا, يرى
الزحام الذي أمامه كل عابر بشارع خلوصي ولو على بُعد بعيد .
لا أُحب أن أقول أن ما فعلناه كان الصواب بعينه , فقد أعطينا حياتنا الجامعية ما تستحق وكفى, أو
ربما أقل منه , كان يومنا المعتاد لا يكاد يتغير إلا فيما ندر ...
يُوقظني بعد جهد كبير, نجاهد فى معارك الصباح للنيل بمقعد فى السيارات المتجهة إلى القاهرة ,
نظفر بمقعدين أو مقعد ونصف المقعد ! , يساعدنا في ذلك ما نبدو فيه من صدف عن الإقدام ,
_فالدنيا لاتاتي لمحتاج_ مقارنة بالآخرين , نصل بعد إعياء شديد من مقاعد السيارة المتهالكة
وزجاجها المتهالك لايكاد يحمينا من براثن الضباب المنتشر على طول الطريق الزراعي , نمتطى
المترو بعد مناوشات برجال الأمن هناك ,الكثير من المراوغات تتم فيما بيننا تنتهي بالوصول إلى
القطار بكل الطرق المقبولة والمقبولة أيضاً فى أنظارنا وقتها , نصل إلى الكلية التي بالفعل يومياً
تكاد محاضرتها الأولى تُوشك على الإنتهاء , لا يعنينا ذلك الأمر شيئاً , كل ما يعنينا حال الخبز
الذي ينتظرنا على عربة الفول التي اتخذت من مجاورة إحدى المقاهي لها تميزاً منفرداً عن باقي
عربات الفول المنتشرة بطرقات شوارع ورش روض الفرج , كنا نواصل السير دون الإلتفات إلى
باب الكلية بل لايعنينا الأمر بأكمله , ما يعنينا حقاً مقاعدنا المعروفة على ناصية الشارع , يلتفت
إلينا صبي المقهي مبتسماً بجسده النحيف , وعيناه المحفورتين بين معالم وجهه تتوجه يميناً ويساراً
فى متابعة آنسات المدرسة الثانوية المواجهه للمقهى
.,. لانكاد نجلس حتى يأتينا عبدالصبور صاحب عربة الفول بطاولة كبيرة عليها مالذ وطاب ,وكما
تعود فهو طلب المهندزين كما ينطقها , يتبعه صبي المقهي بكوبين من المياه المثلجة ,, وعينه تنتقل
بيننا وبين آنسات الثانوية , يترقب أن نفرغ من الإفطار حتى يُحضار الشاي بالنعناع ,.
تنتهي هذة الوصلة المتكررة يومياً ثم نتبعها بجولة لبائع الجرائد كما ذكرت ننهل من قراءة عناوين
جميع الصحف , وتتسلل أيادينا إلى الكم الهائل من سلسلات مكتبة الأسرة, وربما لا نمتنع عن
الشراء وقتما تكون هذة الكتب كالسيرة الهلالية للأبنودي أو ديوان لشعراء الجاهلية أوغيرهم ,حينها
يكون الوقت قد حان لمتابعة الدراسة .كما ذكرت وكما سأذكر لاحقاً لا يعني هذا أننا كنا نتهاون فى
الجانب العلمي , فبعد حلقات سوف نقف وقفات على هذا الشأن , ولكن صحيح القول أننا كنا ندير
أوقاتنا بإحترافية ,فقد خضنا التعليم مع العديد من الأنشطة على التوازي وبينما نال اقراننا شهادة
الهندسة على اختلاف ما انفقوا من جهد ووقت , إلا أننا نُلنا هذة الشهادة ولكن أصبنا من الحياة مالم
يصيبه الآخرين , يأخذني الحديث بحلاوته عن تلك المرحلة وأخشى ان أظل واقف عليها وأُهمل
الجانب العقلاني الكبير للصديق المفكر , ولكن قبل أن أختم هذة المرحلة التي لها بالقلب مكانة
كبيرة أمر مروراً سريعاً على كيفية إتمام العام الدراسي سوياً , أولى محطات العام كانت تلك
الإختبارات التي تُقام بمنتصف الترم الدراسي , ليست ذات أهمية قصوى عندنا ولكنها تشغل من هم
فى نهم ,يتسارعون على نيل الدرجات الأسمى فى كل مادة دراسية , كان يخوضوها صديقي بأقل
مجهود وبأكبر عقلية فكان له وازع عملي أكبر بكثير من ذلك الذي يمتلكه أفضل هؤلاء النشطاء
,هواة الكتب العلمية والنمطية التعليمة , فما كان عليه سوى أن يتبادل الثقافات بينه وبينهم هم
بالنظرية العلمية وهو بالتجربة العملية , وينقضي الأمر إلا أن الأمر لم يكن بهذة البساطة فكل
المعاهدات التي تُبرم يمكن نقضها , وأحيانا كثيرة يضن أصحاب المعلومات على أصحاب الخبرات
فى أوقات الحاجات, وبعد ان يستمع للطرق العملية فى مجال المقاولات ,وطريقة التعامل خارج
الحرم الجامعي , يمتنع عن الوفاء بما عليه من دين فى وقت الإمتحان , فيكون مصيرة قاسي حقاً ,
ربما تُمزق ورقة إجابته , أو تُسرق حاسبته الإلكترونية لبعض الوقت , فقط لابد ان يذوق وبال
امره , أما إختبارات نهاية العام فكانت شأنها شأن آخر , يستوجب علينا أن نكتفي بممارسة البلياردو
يوم الإختبار فحسب ,بعد أن نُغلق الأبواب على أنفسنا بالطبع تجنباً لمتابعة الآباء , واليوم الذي يليه
نقوم بلملمة جميع أوراق هذة المادة الدراسية ,واليوم الذي يسبق الإختبار مباشرة هو ذلك اليوم الذي
ننكب فيه على الأوراق بعد أن نكون نحينا الثلث منها جانباً , وأخذ كل واحد منا ثُلثً آخر , ثم
نجعل الثلث الأول نتسوله من أصدقاء القرية فى شكل مختصر, وأما ثلثانا فكل فرد يمكث حتى
غروب الشمس يختصر بنوده ,ويلملم ما فيه من معلومات , ويأتي الليل يجمعنا بمنزل الرفيق نبدأ
بتناول العشاء المُعد بالمجهود الذاتي وشرائح الطماطم النغمسة بالخل ,ثم لانلبس أن نشعر بتخاذل
الهمة لعناء اليوم الطويل , وتمشيط الطرقات بحثاً عن الصداقات وأرباب المعلومات , يبتسم لي
صديقي وينتقل بعينيه إلى كوب الشاي الذي بيده قائلاً
( أبو عبده أديني نص ساعة بس أغمض عيني وبعدين نطلع على الكتب طلعة رجل واحد) وحقاً كانت طلعة رجل واحد هي التي تُنهي الأمر ولكنها طلعة والدة الكريمة بعد أن
أجتهدت الوالدة الحنونة فى إيقاظنا لعدة مرات,كانت الوالدة تعاود الحضور إلينا تستخرج الكلمات
من بين أفواهنا ,ونحن نمضغ النوم في تلذذ منقطع النظير فينفطر قلبها حنانا وتتركنا , وكلما فتح
أحدنا عيناه ووجد الاخر يغط في نوم عميق يبتسم في تلذذ تاركاً رأسه فى أحضان وسادته
...يأتي والده قبيل الفجر نستيقظ عنوة وننتهي من الصلاة تتخبط أيادينا ونحن نتخطف الأوراق ,
خوفاً من خيوط الضوء التي تتسلل تباعاً على نافذة الغرفة في عنفوان تُعلن بيوم يكُرم فيه المرء أو
يُهان ,لكنه بلا شك أقرب إلى أن يُهان , لولا دعوات الأباء والأمهات الى الرحيم الرحمان , يكتفي
كل منا بما لديه من شطر المعلومات , أنصرف أنا , وينصرف هو, مطمّئنن كلاً منا الآخر ,أن
الأمر يسير , ولما العجب فهذا حال كل عام , ودوماً ما نردد
( ويفوز باللذات
كل مغامر) , أهرول دون أن أعلم من ثلثه شئ , يبتسم وهو يرى الخوف في عيني
قائلاً
( يا ابوعبده ياما دقت ع الراس طبول ) .
يزداد جهادنا على سيارات الرمسيس نقاوم بشدة عبر الأبواب أن نخطف مقعدين من هؤلاء المتسللين
عبر نوافذ السيارات , ننشغل بالأوراق التي بحوزتنا عما سوانا , نختطف الكلمات باعيننا المائلة,
يسحب أجفانها نوم عميق ,رغم ضوضاء الكاسيت الصارخ , ننسى ما قرأناه, وتنسكب المعلومات
بمطبات الطريق التي تعترض نومنا المتقطع فى سيارة الذهاب , وكلما عاودنا المطالعة قرأنا أول
سطر من جديد , .بلا منفعة , في محاولات فاشلة لإدراك المنهج المتشرذم , نتجنب وعورة الطريق
والإصطدام بالباعة المنتشرين فوق محطات المترو ومن قبلهم كوبري المظلات , راشقين عيوننا
على ذلك السطر الأول الذي يعتلي الصفحة في خطاً منه لكونه دوماً فى محل نظرنا الوحيد ,
الكثير من الطلاب فرادى وجماعات يتناقشون فى أمور أبعد ما تكون عن الثلث أو الثلثين أو
أضعافهما , يتوجه إلى ساخراً مبتسماً وقد استدارت حدقة عينيه وهو يرى عجز وجهي وعظام
تقاسيمه تبدو أكثر وضوحاً ,ومعالمه أكثر شحوباً , لما ينهال عليّ من معلومات أراها فى مادة
دراسية جديدة غير ما قابلنا بالأمس , ثم لايلبس أن ينفجر ضاحكاً بضحكته المميزة عندما يرى
ابتسامتي المتحسرة وكأني أقول فليذهب الإمتحان للجحيم , يربط على كتفي قائلاً
( انسى .... يا أبو عبدة , ما قل وكفى خير مما كثُر وألهى .. أحنا معانا
الخلاصة .....)............. وكانت هذة هي الخلاصة .....[/center]